التفسير الحديث لدروزة - دروزة  
{وَأَرۡسَلَ عَلَيۡهِمۡ طَيۡرًا أَبَابِيلَ} (3)

( 1 ) أبابيل : جماعات وفرق يتبع بعضها بعضا . أو الجماعات الكثيرة ، وقيل : إن واحدها أبيل ، وقيل : إنها جمع إبالة وهي الحزمة ، وهذا في نفس المعنى الأول .

بسم الله الرحمان الرحيم

{ ألم تر كيف فعل ربك بأصحاب الفيل( 1 ) ألم يجعل كيدهم في تضليل( 2 ) وأرسل عليهم طيرا أبابيل( 3 )1 ترميهم بحجارة من سجيل( 4 )2 فجعلهم كعصف3 مأكول( 5 ) } [ 1-5 ] .

معنى آيات السورة واضح ، وهي تذكر السامعين في معرض الإنذار بما كان من نكال الله في أصحاب الفيل ، فجعل كيدهم حابطا خاسرا ؛ حيث أرسل عليهم جماعات من الطير فرمتهم بحجارة طينية وجعلتهم كورق الزرع الممضوغ .

وجمهور المفسرين{[2507]} على أن المقصد من أصحاب الفيل هم الأحباش الذين غزوا مكة ، فإذا كان هذا صحيحا فإنه يؤيد الروايات التي ترويها الكتب العربية القديمة عن الغزوة التي تعرف في تاريخ العرب قبل الإسلام بغزوة الفيل ، والتي قام بها الأحباش بقيادة أبرهة . وسميت كذلك ؛ لأنه كان في الحملة الحبشية بعض الأفيال .

وملخص ما جاء في الروايات{[2508]} أن الأحباش غزوا اليمن قبل البعثة النبوية بذريعة نصر النصارى الذين اضطهدهم الملك الحميري ذو نواس الذي كان يعتنق اليهودية ، وانتصروا على الدولة الحميرية ، ووطدوا سلطانهم في اليمن . وقد اضطهدوا بدورهم اليهود واليهودية ، وأخذوا يدعون العرب إلى النصرانية ، وينشئون الكنائس في اليمن ؛ وقد أنشأوا كنيسة كبرى سمتها الكتب العربية باسم القليس . غير أن العرب لم يستجيبوا إلى الدعوة ، وظلوا متعلقين بتقاليدهم وبالحج إلى الكعبة في الحجاز ، حتى إن بعضهم نجس القليس فغضب الأحباش ، وأرادوا أن يخضعوا الحجاز لحكمهم ، ويهدموا الكعبة التي يتعلق بها العرب ، فجاءوا بحملة كبيرة ، فلما وصلت قرب مكة شرد أهل مكة إلى الجبال ؛ لأنهم رأوا أن لا طاقة لهم بها . ولكن الله حبس الفيل الكبير الذي كان في طليعة الحملة عن مكة فتوقفت الحملة ، فسلط الله عليها جماعات كثيرة من الطيور تحمل بمناقيرها حجارة صغيرة من طين متحجر ، وأخذت ترمي بالحجارة على الأحباش ، فلا يكاد الحجر يصيب جسم الحبشي حتى يتهرأ . وقد تمزق شمل الحملة نتيجة لذلك ونجا الحجاز والكعبة . وقد كان لهذا الحادث نتيجته رد فعل عظيم في بلاد العرب ، حتى صاروا يؤرخون أحداثهم بعام الفيل . وقد روي فيما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم ولد في هذا العام ، كما روي أن الحادث كان قبل ولادته بمدة تراوحت بين ثلاث عشرة سنة وأربعين سنة على اختلاف الروايات ، ومما ذكرته الروايات أن عربيا اسمه أبو رغال صار دليلا للحملة ، فمات في مكان اسمه المغمس ، فصار العرب يرجمون قبره استنكارا لخيانته لقومه ، وظلوا على ذلك دهرا .

وأسلوب الآيات ومضمونها يدلان :

أولا : على أن الحادث كان لا يزال صداه يتردد على الألسنة في بيئة النبي صلى الله عليه وسلم حينما نزلت السورة .

وثانيا : على أن العرب كانوا يعتقدون أن البلاء الذي وقع على الأحباش وهرّأ أجسامهم ومزق شملهم هو بلاء رباني .

وثالثا : على أن القصد من التذكير بالحادث الذي كان قريب العهد ، وكان مالئا للأذهان هو الموعظة ودعوة السامعين أو زعماء قريش إلى الارعواء عن مواقف الأذى والجحود التي يقفونها . فالله الذي كان من قدرته أن يصب بلاءه على الأحباش ، ويمزقهم شر ممزق مع ما هم عليه من شدة البأس قادر على أن يصب بلاءه عليهم ويمزقهم . وهم يعرفون ذلك فعليهم أن يرعووا ويحذروا ويتركوا الأذى والعناد .


[2507]:- انظر تفسير السورة في تفسير الطبري والنيسابوري وابن كثير والبغوي والزمخشري والخازن والطبرسي الخ.
[2508]:- انظر تاريخ الطبري مطبعة الاستقامة جـ1 ص 529 – 560 وغزو الحبشة لليمن وسيطرتهم عليها مما أيدته المنقوشات والآثار القديمة أيضا انظر الجزء الخامس من كتابنا الجنس العربي ص 76 وما بعدها.