التفسير الحديث لدروزة - دروزة  
{فَجَعَلَهُمۡ كَعَصۡفٖ مَّأۡكُولِۭ} (5)

( 3 ) العصف : ورق الزرع .

بسم الله الرحمان الرحيم

{ ألم تر كيف فعل ربك بأصحاب الفيل( 1 ) ألم يجعل كيدهم في تضليل( 2 ) وأرسل عليهم طيرا أبابيل( 3 )1 ترميهم بحجارة من سجيل( 4 )2 فجعلهم كعصف3 مأكول( 5 ) } [ 1-5 ] .

معنى آيات السورة واضح ، وهي تذكر السامعين في معرض الإنذار بما كان من نكال الله في أصحاب الفيل ، فجعل كيدهم حابطا خاسرا ؛ حيث أرسل عليهم جماعات من الطير فرمتهم بحجارة طينية وجعلتهم كورق الزرع الممضوغ .

وجمهور المفسرين{[2507]} على أن المقصد من أصحاب الفيل هم الأحباش الذين غزوا مكة ، فإذا كان هذا صحيحا فإنه يؤيد الروايات التي ترويها الكتب العربية القديمة عن الغزوة التي تعرف في تاريخ العرب قبل الإسلام بغزوة الفيل ، والتي قام بها الأحباش بقيادة أبرهة . وسميت كذلك ؛ لأنه كان في الحملة الحبشية بعض الأفيال .

وملخص ما جاء في الروايات{[2508]} أن الأحباش غزوا اليمن قبل البعثة النبوية بذريعة نصر النصارى الذين اضطهدهم الملك الحميري ذو نواس الذي كان يعتنق اليهودية ، وانتصروا على الدولة الحميرية ، ووطدوا سلطانهم في اليمن . وقد اضطهدوا بدورهم اليهود واليهودية ، وأخذوا يدعون العرب إلى النصرانية ، وينشئون الكنائس في اليمن ؛ وقد أنشأوا كنيسة كبرى سمتها الكتب العربية باسم القليس . غير أن العرب لم يستجيبوا إلى الدعوة ، وظلوا متعلقين بتقاليدهم وبالحج إلى الكعبة في الحجاز ، حتى إن بعضهم نجس القليس فغضب الأحباش ، وأرادوا أن يخضعوا الحجاز لحكمهم ، ويهدموا الكعبة التي يتعلق بها العرب ، فجاءوا بحملة كبيرة ، فلما وصلت قرب مكة شرد أهل مكة إلى الجبال ؛ لأنهم رأوا أن لا طاقة لهم بها . ولكن الله حبس الفيل الكبير الذي كان في طليعة الحملة عن مكة فتوقفت الحملة ، فسلط الله عليها جماعات كثيرة من الطيور تحمل بمناقيرها حجارة صغيرة من طين متحجر ، وأخذت ترمي بالحجارة على الأحباش ، فلا يكاد الحجر يصيب جسم الحبشي حتى يتهرأ . وقد تمزق شمل الحملة نتيجة لذلك ونجا الحجاز والكعبة . وقد كان لهذا الحادث نتيجته رد فعل عظيم في بلاد العرب ، حتى صاروا يؤرخون أحداثهم بعام الفيل . وقد روي فيما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم ولد في هذا العام ، كما روي أن الحادث كان قبل ولادته بمدة تراوحت بين ثلاث عشرة سنة وأربعين سنة على اختلاف الروايات ، ومما ذكرته الروايات أن عربيا اسمه أبو رغال صار دليلا للحملة ، فمات في مكان اسمه المغمس ، فصار العرب يرجمون قبره استنكارا لخيانته لقومه ، وظلوا على ذلك دهرا .

وأسلوب الآيات ومضمونها يدلان :

أولا : على أن الحادث كان لا يزال صداه يتردد على الألسنة في بيئة النبي صلى الله عليه وسلم حينما نزلت السورة .

وثانيا : على أن العرب كانوا يعتقدون أن البلاء الذي وقع على الأحباش وهرّأ أجسامهم ومزق شملهم هو بلاء رباني .

وثالثا : على أن القصد من التذكير بالحادث الذي كان قريب العهد ، وكان مالئا للأذهان هو الموعظة ودعوة السامعين أو زعماء قريش إلى الارعواء عن مواقف الأذى والجحود التي يقفونها . فالله الذي كان من قدرته أن يصب بلاءه على الأحباش ، ويمزقهم شر ممزق مع ما هم عليه من شدة البأس قادر على أن يصب بلاءه عليهم ويمزقهم . وهم يعرفون ذلك فعليهم أن يرعووا ويحذروا ويتركوا الأذى والعناد .

ختام السورة:

وهكذا يتسق الأسلوب والهدف القرآني في هذه القصة اتساقهما في القصص القرآنية عامة ، على ما شرحنا قبل ، أما ماهية الطير والحجارة فقد ذكر المفسرون القدماء{[1]} في صددها أقوالا تجعل الحادث في نطاق المعجزات والخوارق . ورووا فيما رووه أن مرضي الحصبة والجدري ظهرا لأول مرة في الحجاز{[2]} عقب الحادث ، كأنما يريدون أن يقولوا : إن الطير رمتهم بحجارة أصيبوا منها بأحد المرضين . وقد أول الإمام الشيخ محمد عبده{[3]} ذلك بأن الحجارة كانت ملقحة بجرثومة الجدري . ولسنا نرى كبير طائل في تحقيق ماهية الحادث لذاته ؛ لأنه خارج عن نطاق الهدف القرآني . ولكننا نقول : إن حرفية آيات السورة وظاهرها على كل حال في جانب كون الحادث بلاء ربانيا خارقا ، كما أن أسلوبها يساعد على القول : إنها في صدد التذكير بحادث عظيم ، وإن سامعي القرآن الذين كانوا حديثي عهد بالحادث كانوا يعتقدون أن الذين وقع على الأحباش هو بلاء رباني خارق في صورة زحوف من الطير كانت ترميهم بحجارة من سجيل .

هذا ، ولقد أسهب المفسرون المطولون في صور الحادث ، وأوردوا روايات عديدة عن ماهية الطير والحجارة ، وأشكالها ، وكيفية رميها ، والإصابات التي كانت تحدثها ، ومقابلة عبد المطلب جد النبي صلى الله عليه وسلم لأبرهة قبل الحادث ، وما دار بينه وبينه في صدد مواشي أهل مكة والكعبة ، وأوردوا فيما أوردوه أن ابن عباس قال : إنه رأى من حجارة الطير قفيزا عند أم هانئ رضي الله تعالى عنها عمة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهي مخططة بحمرة ، وأن عائشة رضي الله عنها قالت : إنها رأت قائد الفيل وسائسه أعميين مقعدين . . . الخ{[4]} ومع أن هذا الإسهاب لا يدخل في غرض التفسير ، وأن الروايات تتحمل الشك والتوقف ، فإن هذا وذاك يدلان على أن العرب في بيئة النبي صلى الله عليه وسلم كانوا يتداولون أخبار الحادث العظيم ومشاهده .


[2507]:- انظر تفسير السورة في تفسير الطبري والنيسابوري وابن كثير والبغوي والزمخشري والخازن والطبرسي الخ.
[2508]:- انظر تاريخ الطبري مطبعة الاستقامة جـ1 ص 529 – 560 وغزو الحبشة لليمن وسيطرتهم عليها مما أيدته المنقوشات والآثار القديمة أيضا انظر الجزء الخامس من كتابنا الجنس العربي ص 76 وما بعدها.

[1]:التاج جـ 5 ص 382.
[2]:كتب السيد رشيد رضا في تفسيره في صدد هذه النقطة وفي سياق آية مماثلة للآية هنا وهي الآية [128] من سورة الأنعام أكثر من خمس وعشرين صفحة استعرض فيها أقوال من يقول بالتأييد ومن يقول بخلافه وأورد حججهم النقلية والعقلية وانتهى إلى إناطة الأمر إلى حكمة الله ورحمته وعدله.
[3]:التاج جـ 5 ص 173 و 174.
[4]:التاج جـ 5 ص 173 و 174.