التفسير الحديث لدروزة - دروزة  
{وَلَنَبۡلُوَنَّكُم بِشَيۡءٖ مِّنَ ٱلۡخَوۡفِ وَٱلۡجُوعِ وَنَقۡصٖ مِّنَ ٱلۡأَمۡوَٰلِ وَٱلۡأَنفُسِ وَٱلثَّمَرَٰتِۗ وَبَشِّرِ ٱلصَّـٰبِرِينَ} (155)

{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ إِنَّ اللّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ { 153 } وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبيلِ اللّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاء وَلَكِن لاَّ تَشْعُرُونَ { 154 } وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوفْ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمَوَالِ وَالأنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ { 155 } الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ { 156 } أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ { 157 } }

وجّه الخطاب في الآيات إلى المسلمين :

1- لتحثهم على الاستعانة بالصبر والصلاة على ما يمكن أن يصيبهم من المصائب .

2- ولتطمئنهم بأن الله مع الصابرين ينصرهم ويؤيدهم .

3- ولتنهاهم عن اعتبار الذين يقتلون في سبيل الله أمواتا وتقرر لهم أنهم أحياء وإن لم يدركوا كنه حياتهم ويشعروا بها .

4- ولتنبههم إلى أن الله تعالى سوف يظل يبتليهم على سبيل الاختبار ببعض المصائب من جوع وخوف وضياع أموال وأنفس . ولتبشر الصابرين الذين يثبتون على الاختيار ويقابلون ما يصيبهم من ذلك بالصبر ويعلنون إسلام الأمور لله ويقررون أن الله ربهم وإليه مرجعهم وهو مالكهم في جميع الأحوال كلما أصابتهم مصيبة ، ولتقرر أن هؤلاء هم أهل لمغفرة الله ورحمته وبركاته وأنهم المهتدون بهدى الله .

والآيات تبدو فيما احتوته فصلاً جديداً لا صلة له بالسياق السابق موضوعياً . وقد تكرر هذا في سورة البقرة والسور المدنية الطويلة الأخرى على ما شرحناه في مقدمة تفسير السورة . ومع ذلك فقد تكون حكمة وضع هذا الفصل في مكانه في ترتيب آيات السورة في الآيات التي قبلها مباشرة التي خوطب بها المسلمون وطلب منهم الشكر وعدم الكفر ووعدوا بإتمام نعمة الله عليهم . وإذا صح هذا الفرض ، ونرجو أن يكون صحيحاً فيكون فيه صورة من صور تأليف السور المدنية ووضع آياتها فصلاً بعد فصل في مناسبات ملائمة ، وهذا لا يمنع من احتمال أن تكون هذه الآيات نزلت بعد سابقاتها مباشرة فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بوضعها بعدها .

تعليق على الآية

{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ }

وما بعدها [ 153-157 ] وما فيها من تلقين

وقد روى بعض المفسرين [ انظر تفسير الآيات في تفسير الطبري والخازن ] أن الآيات نزلت لتسكين روع المؤمنين وتثبيتهم في فاجعتهم في شهداء بدر وأحد الروايات لم ترد في الصحاح . وروح الآيات وصيغتها تلهم أنها نزلت حقا في صدد تطمين المؤمنين وتسكينهم في حادث استشهاد بعضهم . غير أننا إذا لحظنا أن المؤمنين في غزوة بدر كانوا منتصرين فرحين بنصر الله ، وأن أخبارها نزلت في سورة الأنفال وأن أخبار غزوة أحد وأحزان المسلمين بما كان في فاجعتهم فيها نزلت في سورة آل عمران ، ساغ لنا أن نتردد في احتمال صلة هذه الآيات بإحدى الغزوتين . والذي نرجحه أنها في صدد استشهاد بعض المؤمنين في الحركات الحربية التي أخذت تنشب بين المؤمنين وقريش بعد قليل من الهجرة وقبل واقعة بدر [ انظر الطبقات لابن سعد ، 3/44-49 حيث ذكر فيها أخبار وقائع حربية بين المهاجرين وأهل مكة قبل واقعة بدر ] . وفي سورة البقرة بعض آيات متصلة بذلك سوف تأتي بعد قليل .

ولقد تضمنت الآيات تلقينات جليلة مستمرة المدى بالإضافة إلى ما تضمنته من تطمين المؤمنين الأولين ، وهم في أول عهد هجرتهم .

فعلى المسلمين أن يوطدوا النفس دائما على أنهم سيتعرضون لمصاعب ومشاق وخسائر في المال والنفس وحرمان وخوف وجوع في سبيل الله التي هي الدعوة الإسلامية التي حملهم الله مهمتها وأعطاهم رايتها الشاملة للدعوة إلى الله وحده ومكارم الأخلاق وتأييد الحق ومحاربة الباطل ودفع البغي والظلم والعدوان والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجتناب الفواحش ما ظهر منها وما بطن والبر والرأفة والتضامن والمساواة والحرية والإخاء ، وأن يتحملوا ما يصيبهم من ذلك راضين مطمئنين متجملين بالصبر ؛ لأن الله مع الصابرين وناصرهم ، وأن يستعينوا على ذلك أيضا بعبادة الله وذكره ومراقبته وإسلامهم النفس إليه في كل أحوالهم لأن هذا يمدهم بقوة روحية تساعدهم على التحمل وطمأنينة النفس وتجعلهم موضع رضاء الله ورحمته وبركاته وصلواته وهداه . ولا يصح لهم أن يظنوا أن من يقتل في ذلك السبيل ميت بل هو حي ، وإن لم يدركوا مدى هذه الحياة .

أما هذه الحياة فالأولى فيما نعتقد أن يوقف منها عندما وقف عند القرآن دون تزيد وتوسع . ولا سيما أن الآية تقرر أن الناس لا يمكنهم إدراكها . ومع ذلك ففي التعبير القرآني تلقين جليل أيضا ، فلا يصح أن يسمى الشهيد في سبيل الله ميتا ؛ لأن الميت هو الذي تنقطع صلته بالحياة حينما يموت ميتة عادية بعكس الذي يموت شهيدا في سبيل الله ؛ حيث يكون دائم الاستمتاع برضاء الله وتكريمه في العالم المغيب بالإضافة إلى ما يكون له من حسن الذكر الدائم عند الأحياء وفي هذا ما فيه من بواعث القوة والجرأة على النضال في سبيل الله وإعلاء كلمة الحق ومحاربة الظلم والبغي .

وننبه على أن هناك أحاديث نبوية عديدة في ما أعده الله لمن يقتل في سبيله من تكريم ورزق وعناية . منها ما ورد في الصحاح ومنها ما لم يرد . وأورد بعض المفسرين بعضها في سياق هذه الآيات وأورد بعضهم بعضها في سياق الآيات [ 168-171 ] من سورة آل عمران ، وقد رأينا تأجيل إيرادهما والتعليق عليها إلى تفسير هذه الآيات ؛ لأنها أكثر تناسباً بسبب ما فيها من صراحة بذلك .

وعبارة الآيات في الصبر والصابرين قوية نافذة . وفيها توكيد لما نبهنا عليه في المناسبات السابقة من السور المكية من عناية القرآن ببث فضيلة الصبر في نفوس المؤمنين وحثهم عليها وما يؤدي ذلك إليه من طمأنينة نفس وسكينة قلب وتحمل للمشاق والمصاعب في سبيل الله والحق ، وهكذا يتسق القرآن المكي والمدني معاً في هذا الأمر كما يتسق في سائر الأمور .

ولقد أورد ابن كثير في سياق الآيات بعض الأحاديث ، منها حديث رواه مسلم عن أم سلمة قالت : «سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ما من عبد تصيبه مصيبة فيقول : إنا لله وإنا إليه راجعون اللهم أجرني في مصيبتي واخلفني خيرا منها إلا أجره الله في مصيبته وأخلف له خيرا منها » . وروى الإمام أحمد حديثا عن الحسين بن علي عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : «ما من مسلم ولا مسلمة يصاب بمصيبة فيذكرها وإن طال عهدها فيحدث لذلك استرجاعاً إلا جدّد الله عند ذلك فأعطاه مثل أجرها يوم أصيب » وحديث رواه الشيخان عن أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : «ما يصيب المسلم من نَصَبٍ ولا وَصَبٍ ولا همّ ولا حزن ولا أذى ولا غمّ حتى الشوكة يشاكها إلا كفّر الله بها من خطاياه » . وحديث رواه الشيخان أيضا عن عبد الله قال : «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ما من مسلم يصيبه أذى من مرض فما سواه إلا حطّ الله به عنه من سيئاته كما تحطّ الشجرة من ورقها » حيث ينطوي في الأحاديث تهدئة لروع المؤمن المبتلي وإعداده على تحمل ما يصاب به بدون جزع ولا هلع . وفي ذلك ما فيه من معالجة روحية متساوقة مع ما احتوته الآيات من ذلك .