التفسير الحديث لدروزة - دروزة  
{وَعَلَى ٱلثَّلَٰثَةِ ٱلَّذِينَ خُلِّفُواْ حَتَّىٰٓ إِذَا ضَاقَتۡ عَلَيۡهِمُ ٱلۡأَرۡضُ بِمَا رَحُبَتۡ وَضَاقَتۡ عَلَيۡهِمۡ أَنفُسُهُمۡ وَظَنُّوٓاْ أَن لَّا مَلۡجَأَ مِنَ ٱللَّهِ إِلَّآ إِلَيۡهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيۡهِمۡ لِيَتُوبُوٓاْۚ إِنَّ ٱللَّهَ هُوَ ٱلتَّوَّابُ ٱلرَّحِيمُ} (118)

( 1 ) وظنوا : الراجح أن الكلمة هنا بمعنى تيقنوا ؛ لأن الظن من الأضداد أحيانا ، تعني الشك وتعني اليقين . وفي القرآن أمثلة من هذا الباب مثل ما جاء في آية سورة يوسف ( 109 ) وآية سورة الكهف ( 54 ) .

{ لَقَد تَّابَ الله عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِن بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِّنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ ( 117 ) وَعَلَى الثَّلاَثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُواْ حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ وَظَنُّواْ ( 1 ) أَن لاَّ مَلْجَأَ مِنَ اللّهِ إِلاَّ إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُواْ إِنَّ اللّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ( 118 ) } ( 117 – 118 ) .

في الآيتين :

( 1 ) تطمين رباني بتوبة الله تعالى ورضائه عن النبي والمهاجرين والأنصار الذين اتبعوه في ظرف عسير شاق حتى كاد يزيغ بعضهم فيه ويتورطون في موقف لا يرضاه الله . فثبتهم وتاب عليهم ؛ لأنه رؤوف رحيم بهم .

( 2 ) وتطمين رباني آخر بشمول توبة الله تعالى ورحمته أيضا للثلاثة المتخلفين عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الذين استشعروا بخطئهم استشعارا جعل الأرض تضيق بهم على رحبها ، بل وجعل أنفسهم تضيق عليهم فلجأوا إلى الله ليعفو عنهم ؛ لأنهم تيقنوا أن لا ملجأ لهم ولا مفر منه إلا إليه فتاب عليهم . وهو التواب الرحيم .

تعليق على الآية :

{ لَقَد تَّابَ الله عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ . . . . . . . . . . . . . . . . . . . }

والآية التالية لها .

وما روي في صددهما من روايات

وما انطوى فيهما من صور وتلقين

الآيتان تبدوان فصلا جديدا مع اتصالهما بموضوع غزوة تبوك . وفحواهما يلهم أنهما نزلتا بعد عودة النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين من تبوك وهو ما تفيده الروايات المروية في صددهما . والمتبادر أنهما نزلتا بعد الفصل السابق الذي رجحنا أنه نزل بعد العودة من تبوك فوضعتا بعده .

ولم يرو المفسرون حادثا معينا في صدد نزول الآية الأولى ، وإنما رووا وصفا لظروف غزوة تبوك ، وما كان فيها من شدة كادت قلوب فريق من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم تزيغ منها على حد التعبير القرآني . والمتبادر أن توبة الله المعلنة في هذه الآية هي متصلة بذلك ( 1 ){[1143]} . ووصف القرآن لها بيوم العسرة مؤيد لذلك ؛ حيث كانت عسرة من شدة الحر وعسرة من قلة الظهر والزاد والماء حتى كان الثلاثة والأربعة بل والعشرة منهم يتناوبون على بعير واحد . وحتى وصل العطش بهم أحيانا إلى نحر الإبل واعتصار كروشها . وحتى وصلت قلة الطعام مع بعضهم إلى الاكتفاء أحيانا بالتمرات القليلة في اليوم بل إلى المناوبة في لوك التمرة الواحدة . وقد برح ببعضهم التعب حتى كان بعضهم يتخلف عن الركب فيخبرون النبي صلى الله عليه وآله وسلم به فيقول : دعوه فإن يك فيه خير فسيلحقه الله بكم ، وإن يكن غير ذلك فقد أراحكم منه . وكان من المتخلفين ثم اللاحقين أبو ذر رضي الله عنه . وتخلف من المخلصين بضعة نفر أحدهم أبو خيثمة الأنصاري الذي ندم بعد رحيل الجيش والتحق به في خبر شائق يرويه ابن هشام ؛ حيث قال ( 1 ){[1144]} : إنه جاء أهله في يوم حار فوجد زوجتيه في عريشين لهما في حائطه – بستانه – كل منهما قد رشت عريشها وبردت له فيه ماء وهيأت له فيه طعاما ، فلما دخل قام على باب العريش فنظر إلى امرأتيه وما صنعتا له فقال : رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في الضح – في الشمس – والريح والحر وأبو خيثمة في ظل بارد وطعام مهيأ وامرأة حسناء في ماله مقيم . ما هذا بالنصف . ثم قال : والله لا أدخل عريش واحدة منكما حتى ألحق برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، فهيأ لي زادا ففعلتا ثم قدم ناضحه فارتحله ، ثم خرج في طلب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حتى أدركه حين نزل تبوك . ولقي في طريقه واحدا مثله خرج للالتحاق برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو عمير بن وهب الجمحي فترافقا ، حتى إذا دنوا من تبوك قال أبو خيثمة لعمير : إن لي ذنبا فلا عليك أن تتخلف عني حتى آتي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قبلك ، ففعل حتى إذا دنا من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال الناس : هذا راكب على الطريق مقبل فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ( كن أبا خيثمة ) فقالوا : يا رسول الله هو والله أبو خيثمة فلما أناخ أقبل فسلم على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأخبره فدعا له بخير . وقد أورد ابن هشام أبياتا منسوبة إليه جاء فيها :

لما رأيت الناس في الدين نافقوا أتيت التي كانت أعف وأكرما

وبايعت باليمنى يدي لمحمد فلم أكتسب إثما ولم أغش محرما

تركت خضيبا في العريش وصرمة صفايا كراما بسرها قد تحمما

وكنت إذا شك المنافق أسمحت إلى الدين نفسي شطره حيث يمما

ومما يلفت النظر اختصاص المهاجرين والأنصار بالذكر في الآية الأولى ، في حين أن الروايات تذكر أن من القبائل البدوية من اشتراك في الحملة إلى جانبهم . ومما يؤيده ذكر حادث اعتذار بعض الأعراب ذوي القدرة والثروة في الآية ( 90 ) وبعدها .

ويتبادر لنا أن هذا هو بسبب كون هذه الطبقة هي التي كانت العمود الحقيقي القوي الذي قامت عليه الدعوة والمجتمع الإسلامي في عهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم وعقب وفاته . والتي كانت تسارع إلى تأييد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والاستجابة إليه قلبا وقالبا في كل ظرف وبخاصة في الملمات فيقتدي بها سائر الناس . فالمتبادر أن حكمة التنزيل اختصتهم بالذكر استعظاما لما حكته الآية عن بعضهم : { كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِّنْهُمْ } لأنه لم يكن يصح أن يصدر مثل هذا من أي فرد من هذه الطبقة . أما ذكر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم معهم وشموله بالتوبة ، فقد روى بعض المفسرين عن ابن عباس وغيره أن ذلك إما بسبب موقف التساهل الذي وقفه من المستأذنين بالتخلف والإذن لهم مما حكته بعض الآيات وإما بقصد تشريف المهاجرين والأنصار وتطمينهم . وكلا القولين وجيه وإن كنا نرجح الثاني ؛ لأن موضوع الإذن قد ذكر في آية بأسلوب تحببي عتابي مع ذكر عفو الله عنه وهي الآية ( 43 ) فلم يبق محل لتوبة أخرى والله أعلم .

أما الآية الثانية فهي في حق ثلاثة من المخلصين تكاسلوا وتخلفوا في المدينة بدون عذر ، وقد روى المفسرون خبرهم ، وقد روى خبرهم الشيخان والترمذي في سياق تفسير الآية في حديث طويل عن كعب بن مالك أحد الثلاثة رأينا إيراده لما فيه من فوائد وصور رائعة عن أخلاق أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ( 1 ){[1145]} . قال : ( لم أتخلف عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في غزوة غزاها قط إلا في غزوة تبوك . غير أني قد تخلفت في غزوة بدر ولم يعاتب النبي صلى الله عليه وآله وسلم أحدا تخلف عنه إنما خرج النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمون يريدون عير قريش حتى جمع الله بينهم وبين عدوهم على غير ميعاد . ولقد شهدت مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم ليلة العقبة حين تواثقنا على الإسلام ، وما أحب أن لي بها مشهد بدر ، وإن كانت بدر أذكر في الناس منها . وكان من خبري حين تخلفت عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في غزوة تبوك أني لم أكن قط أقوى ولا أيسر مني حين تخلفت عنه في تلك الغزوة . والله ما جمعت قبلها راحلتين قط حتى جمعتهما في تلك الغزوة فغزاها النبي صلى الله عليه وآله وسلم في حر شديد واستقبل سفرا بعيدا ومفازا ، واستقبل عددا كثيرا فجلا للمسلمين أمرهم ليتأهبوا أهبة غزوهم فأخبرهم بوجههم الذي يريد والمسلمون مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كثير ولا يجمعهم كتاب حافظ . فقلَّ يريد أن يتغيب يظن أن ذلك سيخفى ما لم ينزل فيه وحي من الله . وكانت تلك الغزوة حين طابت الثمار والظلال فأنا إليها أصعر . فتجهز النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمون معه وطفقت أغدو لكي أتجهز معهم فأرجع ولم أقض شيئا فأقول في نفسي : أنا قادر على ذلك إذا أردت فلم يزل ذلك يتمادى بي حتى استمر بالناس الجد فأصبح النبي صلى الله عليه وآله وسلم غاديا والمسلمون معه . ولم أقض من جهازي شيئا ثم غدوت فرجعت ولم أقض شيئا فلم يزل ذلك يتمادى بي حتى أسرعوا وتفارط الغزو ، فهممت أن أرتحل فأدركهم ، ويا ليتني فعلت ، ثم لم يقدر ذلك لي فطفقت إذا خرجت في الناس بعد خروج النبي صلى الله عليه وآله وسلم يحزنني أني لا أرى لي أسوة إلا رجلا مغموصا عليه في النفاق أو رجلا ممن عذر الله من الضعفاء ولم يذكرني النبي صلى الله عليه وآله وسلم حتى بلغ تبوك فقال وهو جالس في القوم : ما فعل كعب بن مالك ؟ فقال رجل من بني سلمة : يا رسول الله حبسه براده والنظر في عطفيه . فقال له معاذ بن جبل : بئس ما قلت ، والله يا رسول الله ما علمنا عليه إلا خيرا . فسكت النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، فبينما هو على ذلك رأى رجلا مبيضا يزول به السراب فقال صلى الله عليه وآله وسلم : كن أبا خيثمة فإذا هو أبو خيثمة الأنصاري الذي تصدق بصاع التمر حين لمزه المنافقون . فلما بلغني أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قد توجه قافلا من تبوك حضرني بثي ، فطفقت أتذكر الكذب وأقول بم أخرج من سخطه غدا ، وأستعين على ذلك كل ذي رأي من أهلي . فلما قيل لي : إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قد أظل قادما زاح عني الباطل ، حتى عرفت أني لن أنجو منه بشيء أبدا ، فأجمعت صدقه ، وصبح رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قادما ، وكان إذا قدم من سفر بدأ بالمسجد فركع فيه ركعتين ثم جلس للناس فجاء المخلفون فطفقوا يعتذرون إليه ويحلفون له وكانوا بضعة وثمانين رجلا فقبل منهم علانيتهم وبايعهم واستغفر لهم ووكل سرائرهم إلى الله حتى جئت ، فلما سلمت تبسم تبسم المغضب ثم قال : تعال فجئت أمشي حتى جلست بين يديه . فقال لي : ما خلفك . ألم تكن قد ابتعت ظهرك ؟ فقلت : يا رسول الله إني والله لو جلست عند غيرك من أهل الدنيا لرأيت أني سأخرج من سخطه بعذر ، ولقد أعطيت جدلا . ولكني الله لقد علمت لئن حدثتك اليوم حديث كذب ترضى به عني ليوشكن الله أن يسخطك علي . ولئن حدثتك حديث صدق تجد علي فيه إني لأرجو فيه عقبى الله . والله ما كان لي عذر ، والله ما كنت قط أقوى ولا أيسر مني حين تخلفت عنك قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : أما هذا فقد صدق ، فقم حتى يقضي الله فيك . فقمت وثار رجال من بني سلمة فاتبعوني فقالوا : والله ما علمناك أذنبت ذنبا قبل هذا . لقد عجزت في أن لا تكون اعتذرت إلى النبي بما اعتذر به إليه المخلفون ، فقد كان كافيك ذنبك استغفارا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لك قال : فوالله ما زالوا يؤنبونني حتى أردت أن أرجع إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فأكذب نفسي ثم قلت لهم : هل لقي هذا معي من أحد . قالوا : نعم لقيه معك رجلان قالا مثل ما قلت ، فقيل لهما مثل قيل لك ، قلت : من هما قالوا : مرارة بن الربيع العامري وهلال بن أمية الواقفي فذكروا لي رجلين صالحين قد شهدا بدرا فيهما أسوة ، فمضيت حين ذكروهما لي . ونهى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم المسلمين عن كلامنا : أيها الثلاثة من بين من تخلف عنه فاجتنبنا الناس وتغيروا لنا حتى تنكرت لي نفسي في الأرض فما هي بالأرض التي أعرف فلبثنا على ذلك خمسين ليلة . فأما صاحباي فاستكنا وقعدا في بيوتهما يبكيان ، وأما أنا فكنت أشب القوم وأجلدهم فكنت أخرج فأشهد الصلاة وأطوف في الأسواق ولا يكلمني أحد وآتي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فأسلم عليه وهو في مجلسه بعد الصلاة فأقول في نفسي هل حرك شفتيه برد السلام أم لا ، ثم أصلي قريبا منه وأسارقه النظر ، فإذا أقبلت على صلاتي نظر إلي وإذا التفت نحوه أعرض عني ، حتى إذا طال ذلك علي من جفوة المسلمين مشيت حتى تسورت جدار حائط أبي قتادة وهو ابن عمي وأحب الناس إلي فسلمت عليه ، فوالله ما رد علي فقلت له : يا أبا قتادة أنشدك بالله هل تعلمن أني أحب الله ورسوله فسكت ، فعدت فناشدته فسكت ، فعدت فناشدته فقال : الله ورسوله أعلم . ففاضت عيناي وعدت حتى تسورت الجدار فبينا أنا أمشي في سوق المدينة إذا نبطي من نبط أهل الشام ممن قدم بالطعام يبيعه بالمدينة يقول : من يدل على كعب بن مالك فطفق الناس يشيرون له إلي حتى جاءني ، فدفع لي كتابا من ملك غسان وكنت كاتبا فقرأته فإذا فيه : أما بعد فإنه قد بلغنا أن صاحبك قد جفاك ولم يجعلك الله بدار هوان ولا مضيعة فالحق بنا نواسك . فقلت حين قرأتها وهذه أيضا من البلاء فتياممت بها التنور فسجرتها بها حتى إذا مضت أربعون من الخمسين ، واستلبث الوحي إذا رسول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال : إن النبي صلى الله عليه وآله وسلم يأمرك أن تعتزل امرأتك فقلت : أطلقها أم ماذا أفعل ؟ قال : لا بل اعتزلها فلا تقربنها . وأرسل إلي صاحبي بمثل ذلك فقلت لامرأتي : الحقي بأهلك فكوني عندهم حتى يقضي الله في هذا الأمر قال : فجاءت امرأة هلال بن أمية – أحد الثلاثة – رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقالت : يا رسول الله إن هلالا شيخ ضائع ليس له خادم فهل تكره أن أخدمه . قال : لا ، ولكن لا يقربنك . فقالت : إنه والله ما به حركة إلى شيء ، ووالله مازال يبكي منذ كان من أمره ما كان إلى يومه هذا . قال : فقال لي بعض أهلي لو استأذنت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في امرأتك ، فقد أذن لامرأة هلال أن تخدمه ، فقلت : لا أستأذن فيها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وما يدريني ما يقول لي إذا استأذنته فيها وأنا رجل شاب . قال : فلبثت بذلك عشر ليال فكمل لنا خمسون ليلة حين نهي عن كلامنا ، ثم صليت الفجر صباح خمسين ليلة على ظهر بيت من بيوتنا فبينا أنا جالس على الحال التي ذكر الله منا قد ضاقت علي نفسي وضاقت علي الأرض بما رحبت سمعت صوت صارخ أوفى على سلع يقول بأعلى صوته : يا كعب بن مالك أبشر ، فخررت ساجدا ، وعرفت أن قد جاء فرج ، فآذن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الناس بتوبة الله علينا حين صلى صلاة الفجر ، فذهب الناس يبشروننا فذهب قبل صاحبي مبشرون وركض رجل إلي فرسا وسعى ساع من أسلم قبلي وأوفى الجبل فكان الصوت أسرع من الفرس ، فلما جاءني الذي سمعت صوته يبشرني فنزعت له ثوبي فكسوته إياهما ببشارته والله ما أملك غيرهما يومئذ واستعرت ثوبين فلبستهما فانطلقت أتأمم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يتلقاني الناس فوجا فوجا يهنئونني بالتوبة ويقولون : لتهنئك توبة الله عليك حتى دخلت المسجد فإذا النبي صلى الله عليه وآله وسلم جالس في المسجد وحوله الناس فقام طلحة بن عبيد الله يهرول حتى صافحني وهنأني ، والله ما قام رجل من المهاجرين غيره فكنت لا أنساها له . فلما سلمت على النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهو يبرق وجهه من السرور قال : أبشر بخير يوم مر عليك منذ ولدتك أمك . فقلت : أمن عندك يا رسول الله أم عند الله ؟ فقال : لا بل من عند الله . وكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم إذا سر استنار وجهه كأن وجهه قطعة قمر وكنا نعرف ذلك . فلما جلست بين يديه قلت : يا رسول الله إن من توبتي أن أنخلع من مالي صدقة إلى الله ورسوله ، قال : أمسك بعض مالك فهو خير لك . فقلت : إني أمسك سهمي الذي بخيبر . وقلت : يا رسول الله إن الله إنما أنجاني بالصدق وإن من توبتي ألا أحدث إلا صدقا ما بقيت . قال : فوالله ما علمت أن أحدا من المسلمين ابتلاه الله في صدق الحديث منذ ذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى يومي هذا أحسن مما أبلاني الله به . والله ما تعمدت كذبة منذ قلت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى يومي هذا . وإني لأرجو أن يحفظني الله فيما بقي قال : فأنزل الله : { لَقَد تَّابَ الله عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِن بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِّنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ ( 117 ) وَعَلَى الثَّلاَثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُواْ حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ وَظَنُّواْ أَن لاَّ مَلْجَأَ مِنَ اللّهِ إِلاَّ إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُواْ إِنَّ اللّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ( 118 ) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَكُونُواْ مَعَ الصَّادِقِينَ ( 119 ) } . قال كعب : والله ما أنعم الله علي من نعمة قط بعد إذ هداني للإسلام أعظم في نفسي من صدقي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ألا أكون كذبته فأهلك كما هلك الذين كذبوا . فإن الله أنزل الوحي فيهم بشر ما قال لأحد قال : { سَيَحْلِفُونَ بِاللّهِ لَكُمْ إِذَا انقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُواْ عَنْهُمْ فَأَعْرِضُواْ عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ جَزَاء بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ ( 95 ) يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْاْ عَنْهُمْ فَإِن تَرْضَوْاْ عَنْهُمْ فَإِنَّ اللّهَ لاَ يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ ( 96 ) } . وفي رواية البخاري خاصة زيادة وهي : ( فاجتنب الناس كلامنا ، فلبثت كذلك حتى طال علي الأمر وما من شيء أهم إلي من أن أموت فلا يصلي علي النبي صلى الله عليه وآله وسلم أو أن يموت النبي صلى الله عليه وآله وسلم فأكون من الناس بتلك المنزلة فلا يكلمني أحد منهم ولا يصلي علي . فأنزل الله توبتنا على نبيه صلى الله عليه وآله وسلم حين بقي الثلث الآخر من الليل وهو عند أم سلمة وكانت محسنة في شأني معنية في أمري فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : يا أم سلمة تيب على كعب قالت : أفلا أرسل إليه فأبشره . قال : إذا يحطمكم الناس فيمنعوكم النوم سائر الليلة حتى إذا صلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم صلاة الفجر آذن بتوبة الله علينا . وكان إذا استبشر استنار وجهه كأنه قطعة من القمر ) .

والآية الثانية تلهم بقوة أن الذين تخلفوا بغير عذر صحيح من المخلصين هم ثلاثة فقط . ويدل هذا على أن جميع القادرين من هؤلاء قد اشتركوا في الحملة . وقد اشترك فيها نساء أيضا على ما ذكرته الروايات كما اشترك فيها المخلصون من القبائل البدوية . وعدد المتخلفين من المنافقين في المدينة كان نحو ثمانين شخصا على ما جاء في الحديث الطويل الصحيح الذي أوردناه آنفا المروي عن كعب بن مالك . وأسلوب الآيات : ( 90 22 ) التي تندد بالمعتذرين من الأعراب يدل على أن عددهم كان قليلا أيضا . وفي كل هذا دلائل على ما كان من خطورة الحملة ومن صحة العدد العظيم الذي روى اجتماعه فيها . ولا سيما إذا لحظنا أن المدينة بعد فتح مكة أخذت تكتظ بالوافدين إليها من كل صوب .

والصورة التي رسمتها الآية الثانية عن المتخلفين الثلاثة قوية البروز تدل على ما كان من شدة أثر الموقف المتجهم الذي وقفه النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمون منهم في نفوسهم . وهو ما زاده الحديث المروي عن كعب بيانا وقوة . وحكمة ذلك واضحة . فالتقصير في الواجب ولا سيما إذا كان من المخلص خطير شديد الأثر من حيث احتمال تذرع غير المخلص به واحتمال عدواه للمخلص في الوقت نفسه . وفي هذا تلقين مستمر المدى فيما يجب على المسلمين أن يقفوه من موقف الحزم والشدة مع الذين يشذون عن الجموع ويقصرون في واجباتهم . وبخاصة في واجب الجهاد والنضال حتى ولو لم يكونوا متهمين في إيمانهم وإخلاصهم .


[1143]:انظر تفسير الآيات في الطبري والبغوي وابن كثير والخازن والطبرسي.
[1144]:انظر ابن هشام ج 4 ص 174 – 186.
[1145]:التاج ج 4 ص 122 – 128.