الدر المصون في علم الكتاب المكنون للسمين الحلبي - السمين الحلبي  
{وَلَا يَحُضُّ عَلَىٰ طَعَامِ ٱلۡمِسۡكِينِ} (3)

قوله : { فَذَلِكَ } : فيه وجهان ، أحدهما : أنَّ الفاءَ جوابُ ُشرطٍ مقدرٍ ، أي : إن تأمَّلْتَه ، أو إنْ طَلَبْتَ عِلْمَه فذلك . والثاني : أنَّها عاطفةٌ { فذلك } على { الذي يَكَذِّبُ } ، إمَّا عَطْفَ ذاتٍ على ذاتٍ ، أو صفةٍ على صفةٍ . ويكونُ جوابُ { أَرَأَيْتَ } محذوفاً لدلالةِ ما بعدَه عليه . كأنه قيل : أَخْبِرْني ، وما تقولُ فيمَنْ يُكَذِّبُ بالجزاءِ ، وفيمَنْ يُؤْذِي اليتيمَ ، ولا يُطْعِمُ المسكينَ ، أنِعْمَ ما يصنعُ ؟ فعلى الأولِ يكونُ اسمُ الإِشارةِ في محلِّ رَفْعٍ بالابتداءِ ، والخبرُ الموصولُ بعده ، وإمَّا على أنه خبرٌ لمبتدأ مضمرٍ ، أي : فهو ذاك ، والموصولُ نعتُه . وعلى الثاني يكونُ منصوباً لِنَسَقِه على ما هو منصوبٌ .

إلاَّ أنَّ الشيخَ رَدَّ الثاني فقال : " فجعل ذلك " في موضعِ نصبٍ عطفاً على المفعولِ ، وهو تركيبٌ غريبٌ كقولِك : " أَكرَمْتُ الذي يَزورُنا فذلك الذي يُحْسِنُ إلينا " ، فالمتبادَرُ إلى الذهنِ أنَّ { فذلك } مرفوعٌ بالابتداء . وعلى تقديرِ النصبِ يكونُ التقديرُ : أَكرمْتُ الذي يزورُنا فأكرَمْتُ ذلك الذي يُحْسِنُ إلينا . فاسمُ الإِشارةِ في هذا التقديرِ غيرُ متمكِّنٍ تَمَكُّنَ ما هو فصيح ؛ إذ لا حاجةَ أَنْ يُشارَ إلى الذي يزورُنا ؛ بل الفصيحُ : أَكرَمْتُ الذي يزورُنا ، فالذي يُحْسِن إلينا ، أو أكَرَمْتُ الذي يزورُنا فيُحْسِنُ إلينا . وأمَّا قولُه " إمَّا عَطْفُ ذاتٍ على ذاتٍ " فلا يَصِحُّ ؛ لأنَّ " فذلك " إشارةٌ إلى الذي يُكَذِّبُ ، فليسا بذاتَيْنِ ؛ لأنَّ المشارَ إليه ب " ذلك " واحدٌ . وأمَّا قولُه : " ويكونُ جوابُ أرأيتَ محذوفاً " فهذا لا يُسَمَّى جواباً ؛ بل هو في موضع المفعولِ الثاني ل " أرَأيْتَ " ، وأمَّا تقديرُه " أنِعْمَ ما يصنعُ " ؟ فهمزةُ الاستفهام لا نعلُم دخولَها على نِعْم ولا بئسَ ؛ لأنهما إنشاءٌ ، والاستفهامٌ لا يدخلُ إلاَّ على الخبر " انتهى .

والجوابُ عن قولِه : " فاسمُ الإِشارةِ غيرُ متمكِّنٍ " إلى آخره : أنَّ الفرقَ بينهما أنَّ في الآيةِ الكريمةِ استفهاماً وهو " أرأيْتَ " ، فحَسُنَ أَنْ يُفَسِّرَ ذلك المُسْتَفْهَمَ عنه ، بخلافِ المثالِ الذي مَثَّل به ، فمِنْ ثَمَّ حَسُنَ التركيبُ المذكورُ ، وعن قولِه : " لأنَّ " فذلك " إشارةٌ إلى " الذي يُكَذِّب " بالمنعِ " بل مُشارٌ به إلى ما بعدَه كقولِك : " اضْرِبْ زيداً ، فذلك القائمُ " إشارةٌ إلى القائمِ لا إلى زيد ، وإنْ كان يجوزُ أَنْ يكونَ إشارةً إليه . وعن قولِه " فلا يُسَمَّى جواباً " أنَّ النحاةَ يقولون : جوابُ الاستفهام ، وهذا قد تَقَدَّمه استفهامٌ فَحَسُنَ ذلك . وعن قولِه : " والاستفهامُ لا يَدْخُلُ إلاَّ على الخبر " ؛ بالمعارضةِ بقولِه تعالى : { فَهَلْ عَسَيْتُمْ } [ محمد : 22 ] فإنَّ " عَسَى " إنشاءٌ ، فما كان جواباً له فهو جوابٌ لنا .

وقرأ العامَّةُ بضمِّ الدال وتشديد العينِ مِنْ دَعَّه ، أي : دَفَعه ، وأمير المؤمنين والحسن وأبو رجاء " يَدَعُ " بفتحِ الدالِ وتخفيفِ العين ، أي : يَتْرُكُ ويُهْمِلُ ، وزيدُ بن علي " ولا يُحاضُّ " مِن المَحَاضَّةُ وتقدَّم في الفجر .