الدر المصون في علم الكتاب المكنون للسمين الحلبي - السمين الحلبي  
{إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ ٱلۡأَبۡتَرُ} (3)

والشانِئُ : المُبْغِضُ . يُقال : شَنَأه يَشْنَؤُه ، أي : أَبْغَضَه . وقد تقدَّم في المائدة . قوله : { هُوَ الأَبْتَرُ } : يجوزُ أَنْ يكونَ " هو " مبتدأً ، و " الأبترُ " خبرُه ، والجملةُ خبرُ " إنَّ " ، وأَنْ يكون فصلاً ، وقال أبو البقاء : " أو توكيدٌ " وهو غَلَطٌ منه ؛ لأنَّ المُظْهَرَ لا يُؤَكِّدُ بالمضمر . والأبترُ : الذي لا عَقِبَ له ، وهو في الأصلِ الشيءُ المقطوع ، مِنْ بَتَرَه ، أي : قطعه . وحمارٌ ابترُ : لا ذَنَبَ له . ورجلٌ أُباتِرٌ بضم الهمزة : قاطعُ رَحِمِه قال :

لَئيمٌ نَزَتْ في أَنْفِه خُنْزُوانَةٌ *** على قَطْعِ ذي القربى أَحَدُّ أُباتِرُ

وبَتِر هو بالكسرِ : انقطعَ ذَنَبُه .

وقرأ العامة " شانِئَك " بالألفِ اسمُ فاعل بمعنى الحالِ أو الاستقبالِ أو الماضي . وقرأ ابن عباس " شَنِئَك " بغيرِ ألفٍ . فقيل : يجوزُ أَنْ يكونَ بناءَ مبالغةٍ كفَعَّال ومِفْعال . وقد أثبته سيبويهِ ، وأنشد :

حَذِرٌ أُموراً لا تَضِيرُ وآمِنُ *** ما ليسَ مُنْجِيَه من الأقْدارِ

وقال زيد الخيل :

أتاني أنهم مَزِقون عِرْضي *** جِحاشٌ الكِرْمَلَيْنِ لها فَديدُ

فإنْ كانَ بمعنى الحالِ أو الاستقبالِ فإضافتُه لمفعولِه مِنْ نصبٍ . وإن كان بمعنى المُضِيِّ فهي لا مِنْ نصبٍ . وقيل : يجوزُ أن يكونَ مقصوراً مِنْ فاعِل كقولِهم : " بَرُّ وبارٌّ ، وبَرِدٌ وبارِدٌ .

قوله : { فَصَلِّ } الفاء للتعقيب والتسبيبِ ، أي : تَسَبَّبَ عن هذه المِنَّةِ العظيمة وعَقَبها أَمْرُك بالتخَلِّي لعبادةِ المُنْعِمِ عليكَ وقَصْدِك إليه بالنَّحْرِ ، لا كما تفعلُ قُرَيْشٌ مِنْ صَلاتِها ونَحْرِها لأصنامِها .

وقال أهل العلم : قد احتوَتْ هذه السورةُ ، على كونِها أَقْصَرَ سورةٍ في القرآن ، على معانٍ بليغةٍ وأساليبَ بديعةٍ ، وهي اثنان وعشرون .

الأول : دلالةُ استهلالِ السورةِ على أنه إعطاءٌ كثيرٌ من كثير .

الثاني : إسنادُ الفعل للمتكلم المعظِّم نفسَه .

الثالث : إيرادُه بصيغةِ الماضي تحقيقاً لوقوعِه ك{ أَتَى أَمْرُ اللَّهِ } [ النحل : 1 ] .

الرابع : تأكيدُ الجملةِ ب( إنَّ ) .

الخامس : بناءُ الفعلِ على الاسمِ ليُفيدَ الإِسنادَ مرتين .

السادس : الإِتيانُ بصيغةٍ تَدُلُّ على مبالغةِ الكثرةِ .

السابع : حَذْفُ الموصوفِ بالكَوْثَر ؛ لأنَّ في حَذْفِه مِنْ فَرْطِ الشِّياعِ والإِبهامِ ما ليس في إثباتِه .

الثامن : تعريفُه ب( أل ) الجنسيةِ الدالَّةِ على الاستغراق .

التاسع : فاءُ التَّعْقيب ، فإنَّها كما تقدَّم دالَّةٌ على التَّسْبيب ، فإنَّ الإِنعامَ سببٌ للشُّكر والعبادةِ .

العاشر : التَّعْريضُ بمَنْ كانَتْ صلاتُه ونَحْرُه لغيرِ اللَّهِ تعالى .

الحادي عشر : أنَّ الأمرَ بالصَّلاةِ إشارةٌ إلى الأعمالِ الدينية التي الصلاةُ قِوامُها وأفضلُها ، والأمرُ بالنَّحْرِ إشارةٌ إلى الأعمالِ البدنيةِ التي النَّحْرُ أَسْناها .

الثاني عشر : حَذْفُ متعلَّقِ " انحَرْ " ؛ إذ التقديرُ : فَصَلِّ لربِّك وانْحَرْ له .

الثالثَ عشرَ : مراعاةُ السَّجْعِ ، فإنَّه من صناعةِ البديعِ العاري عن التَّكلُّفِ .

الرابعَ عشرَ قوله : { رَبِّك } في الإِتْيان بهذه الصفةِ دونَ سائرِ صفاتِه الحُسْنى دلالةُ على أنَّه هو المُصْلحُ له المُرَبِّي لنِعَمِه ، فلا تلتمِسْ كلَّ خيرٍ إلاَّ منه .

الخامسَ عشرَ : الالتفاتُ من ضميرِ المتكلمِ إلى الغائب في قولِه : " لربِّك " .

السادسَ عشرَ : جَعْلُ الأمْرِ بتَرْكِ الاهتبالِ بشانِئيه للاستئناف ، وجَعْلُه خاتمةً للإِعراضِ عن الشانىءِ ، ولم يُسَمِّه ليشملَ كلَّ مَنْ اتَّصَفَ - والعياذُ بالله - بهذه الصفةِ القبيحة ، وإن كان المرادُ به شخصاً مَعْنِيَّاً .

السابعَ عشرَ : التنبيُه بذِكْرِ هذه الصفةِ القبيحةِ على أنه لم يَتَّصِفْ إلاَّ بمجرَّدِ قيامِ الصفةِ به ، مِنْ غير أَنْ يُؤَثِّرَ في مَنْ يَشْنَؤُه شيئاً البتةَ ؛ لأنَّ مَنْ يَشْنَأُ شخصاً قد يُؤَثِّر فيه شَنَآنُه شيئاً .

الثامنَ عشرَ : تأكيدُ الجملةِ ب " إنَّ " المُؤْذِنَةِ بتأكيدِ الخبرِ ، ولذلك يُتَلَقَّى بها القسمُ ، وتقديرُ القسمِ يَصْلُح هنا .

التاسعَ عشرَ : الإِتيانُ بضميرِ الفَصْلِ المؤْذِنِ بالاختصاصِ والتأكيدِ إنْ جَعَلْنا " هو " فصلاً ، وإنْ جَعَلْناه مبتدأً ، فكذلك يُفيد التأكيدَ ؛ إذ يصيرُ الإِسنادُ مَرَّتَيْن .

العشرون : تعريفُ الأبترِ ب ( أل ) المُؤْذِنَةِ بالخصوصيَّةِ بهذه الصفةِ ، كأنه قيل : الكامِلُ في هذه الصفةِ .

الحادي والعشرون : الإِتيانُ بصيغة أَفْعَل الدالَّةِ على التناهي في هذه الصفةِ .

الثاني والعشرون : إقبالُه على رسولِه عليه السلام بالخطاب مِنْ أول السورةِ إلى آخرها .