الدر المصون في علم الكتاب المكنون للسمين الحلبي - السمين الحلبي  
{جَهَنَّمَ يَصۡلَوۡنَهَاۖ وَبِئۡسَ ٱلۡقَرَارُ} (29)

قوله تعالى : { جَهَنَّمَ } : فيه ثلاثة أوجهٍ ، أحدُها : أنه بدلٌ من " دارَ " . الثاني : أنه عطفُ بيانٍ لها . وعلى هذين الوجهين فالإِحلالُ يقع في الآخرة . الثالث : أَنْ يَنْتَصِبَ على الاشتغال بفعلٍ مقدَّر ، وعلى هذا فالإِحلالُ يقع في الدنيا ، لأنَّ قولَه { جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا } واقعٌ في الآخرة .

ويؤيِّد هذا التأويلَ قراءةُ ابن أبي عبلة " جهنمُ " بالرفع ، على أنها مبتدأٌ ، والجملةُ بعدها الخبرُ . وتحتمل قراءةُ ابن أبي عبلة وجهاً أخرَ : وهو أن يرتفعَ على خبرِ ابتداءٍ مضمر ، و " يَصْلَوْنها " حالٌ : إمَّا مِنْ " قومَهم " ، وإمَّا مِنْ " دارَ " ، وإمَّا مِنْ " جهنمَ " . وهذا التوجيهُ أَوْلى من حيث إنه لم يتقدَّمْ ما يرجِّح النصبَ ، ولا ما يَجْعلُه مساوياً ، والقرَّاءُ الجماهيرُ على النصبِ ، فلم يكونوا ليتركُوا الأفصحَ ، إلاَّ لأن المسألة لَيستْ من الاشتغالِ في شيءٍ . وهذا الذي ذكرتُه أيضاً مُرَجِّح لنصبهِ على البدليَّة أو البيانِ على انتصابِه على الاشتغال .

والبَوارُ : الهَلاكُ ، قال الشاعر :

فلم أرَ مثلَهُم أبطالَ حربٍ *** غداةَ الرَّوْعِ إذ خِيْفَ البوارُ

وأصلُه من الكَسادِ ، كما قيل : كَسَد حتى فَسَد ، ولَمَّا كان الكسادُ يؤدي إلى الفسادِ والهلاكِ أُطْلِقَ عليه البَوار . ويقال : بار يَبُورُ بَواراً وبُوراً ، ورجل حائرٌ بائرٌ ، وقوله تعالى : { وَكُنتُمْ قَوْماً بُوراً } [ الفتح : 12 ] يحتمل أن يكونَ مصدراً وُصِفَ به الجمعُ ، وأن يكونَ جمع بائر في المعنى . ومِنْ وقوعِ " بُور " على الواحد قوله :

يا رسولَ المَليكِ إنَّ لساني *** راتِقٌ ما فَتَقْتُ إذ أنا بُوْرُ

أي : هالِكٌ .