الدر المصون في علم الكتاب المكنون للسمين الحلبي - السمين الحلبي  
{قُل لِّعِبَادِيَ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ يُقِيمُواْ ٱلصَّلَوٰةَ وَيُنفِقُواْ مِمَّا رَزَقۡنَٰهُمۡ سِرّٗا وَعَلَانِيَةٗ مِّن قَبۡلِ أَن يَأۡتِيَ يَوۡمٞ لَّا بَيۡعٞ فِيهِ وَلَا خِلَٰلٌ} (31)

قوله تعالى : { قُل لِّعِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُواْ يُقِيمُواْ } فيه أوجهٌ ، أحدُها : أنَّ " يُقيموا " مجزومٌ بلامِ أمرٍ محذوفةٍ تقديرُه : ليقيموا ، فحُذِفَتْ وبقي عملُها ، كما يُحْذَفُ الجارُّ ويبقى عملُه ، كقولِه :

محمدُ تَفْدِ نفسَك كلُ نفسٍ *** إذا ما خِفْتَ مِنْ شيءٍ تَبالا

يريد : لِتَفْدِ . أنشده سيبويه ، إلا أنَّه خَصَّه بالشعر . قال الزمخشري : " ويجوزُ أن يكونَ " يُقيموا " و " يُنْفِقوا " بمعنى : لِيُقيموا ولِيُنْفقوا ، ويكون هذا هو المَقُولَ . قالوا : وإنما جاز حَذْفُ اللامِ لأنَّ الأمرَ الذي هو " قُلْ " عِوَضٌ منها ، ولو قيل : يقيموا الصلاة ويُنفقوا ابتداءً بحذف اللام لم يَجُزْ " . قلت : وإلى قريبٍ من هذا نحا ابن مالك فإنه جَعَلَ حَذْفَ هذه اللامِ على أضربٍ : قليلٍ وكثيرٍ ومتوسطٍ . فالكثيرُ : أن يكونَ قبلَه قولٌ بصيغة الأمر كالآيةِ الكريمةِ ، والقليلُ : أن لا يتقدَّمَ قولٌ كقوله : " محمدُ تَفْدِ " البيت ، والمتوسط : أن يتقدَّمَ بغيرِ صيغةِ الأمرِ كقوله :

قُلْتُ لبَوَّابٍ لديهِ دارُها *** تِيْذَنْ فإني حَمْؤُها وجارُها

الثاني : أنَّ " يُقيموا " مجزوم على جوابِ " قُلْ " ، وإليه نحا الأخفش والمبرد . وقد رَدَّ الناسُ عليهما هذا بأنه لا يلزمُ مِنْ قوله لهم : أقيموا " أَنْ يَفْعلوا ، وكم مَنْ تخلَّف عن هذا الأمر . وقد أجيب عن هذا : بأنَّ المرادَ بالعباد المؤمنون ، ولذلك أضافهم إليه تشريفاً ، والمؤمنون متى أَمَرَهم امْتَثَلُوا .

الثالث : أنه مجزومٌ على جوابِ المقولِ المحذوفِ تقديره : قل لعبادي : أقيموا وأَنْفِقُوا ، يُقيموا وينفقوا . قال أبو البقاء : وعزاه للمبرد- " كذا ذكره جماعة ولم يتعرَّضوا لإِفسادِه . وهو فاسد لوجهين ، أحدُهما : أنَّ جوابَ الشرطِ يُخالِفُ الشرطَ : إمَّا في الفعلِ أو في الفاعل أو فيهما ، فأمَّا إذا كان مثلَه في الفعلِ والفاعلِ فهو خطأٌ كقولِك : قم تقمْ ، والتقديرُ على ما ذُكِرَ في هذا الوجه : إنْ يُقيموا يُقيموا . والوجه الثاني : أنَّ الأمرَ المقدَّرَ للمواجهة ، و " يُقيموا " على لفظ الغَيْبَةِ وهو خطأٌ ، إذا كان الفاعل واحداً " . قلت : أمَّا الإِفسادُ الأولُ فقريبٌ ، وأمَّا الثاني فليس بشيء ؛ لأنه يجوز أن يقول : قل لعبدي أَطِعْني يُطِعْك ، وإن كان للغَيْبة بعد المواجهة باعتبارِ حكايةِ الحال .

الرابع : أنَّ التقديرَ : إن تَقُلْ لهم : أقيموا ، يُقيموا ، وهذا مَرْوِيٌّ عن سيبويه فيما حكاه ابن عطية . قلت : وهذا هو القولُ الثاني .

الخامس : قال ابن عطية : " ويحتمل أن يكونَ " يُقيموا " جوابَ الأمرِ الذي يعطينا معناه قولُه " قُلْ " ؛ وذلك أن تجعلَ قولَه " قُلْ " في هذه الآيةِ بمعن بَلّغْ وأَدِّ الشريعةَ يُقيموا " .

السادس : قال الفراء : " الأمرُ معه شرطٌ مقدَّرٌ تقول : " أَطِعِ اللهَ يُدْخِلْكَ الجنَّةَ " .

والفرقُ بين هذا وبين ما قبله : أنَّ ما قبله ضُمِّن فيه الأمرُ نفسُه معنى الشرط ، وفي هذا قُدر فعلُ الشرطِ بعد فعلِ الأمرِ مِنْ غيرِ تضمينٍ .

السابع : قال الفارسيُّ : " إنَّه مضارعٌ صُرِف عن الأمرِ إلى الخبرِ ومعناه : أقيموا " . وهذا مردودٌ ؛ لأنه كان ينبغي أن يُثْبِتَ نونَه الدالَّةَ على إعرابه . وأُجيبَ عن هذا بأنه بُني لوقوعِه موقعَ المبني ، كما بُني المنادى في نحو : " يا زيدُ " لوقوعِه موقعَ الضمير ، ولو قيل بأنه حُذِفَتْ نونُه تخفيفاً على حَدِّ حَذْفها في قولِه : " لا تَدْخُلوا الجنَّة حتى تؤمنوا ، ولا تؤمنوا حتى تحابُّوا " .

وفي معمول " قُلْ " ثلاثةُ أوجهٍ ، أحدُها : الأمرُ المقدَّرُ ، أي : قُلْ لهم : أقيموا ، يُقيموا ، الثاني : أنه نفسُ " يُقيموا " على ما قاله ابنُ عطية الثالث : أنَّه الجملةُ من قولِه { اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ } إلى آخره ، قاله ابن عطية . وفيه تفكيكٌ للنَّظْم ، وجَعْلُ الجملةِ " يُقيموا الصلاة " إلى آخره مُفلتاً ممَّا قبلَه وبعدَه ، أو يكونُ جواباً فَصَل بين القولِ ومعمولِه ، لكنه لا يترتَّبُ على قولِ ذلك إقامةُ الصلاةِ والإِنفاقُ ، إلا بتأويلٍ بعيدٍ جداً .

قوله : " سِرَّاً وعلانِيَةً " في نصبِهِما ثلاثةُ أوجهٍ ، أحدُهما : أنهما حالان ممَّا تقدَّم ، وفيهما ثلاثةُ التأويلاتِ في " زيد عَدْل " ، أي : ذوي سر وعلانية أو مُسِرِّين ومُعْلِنين ، أو جُعِلوا نفسَ السِّرِّ والعَلانية مبالغةً . الثاني : أنهما منصوبان على الظرف ، أي : وَقْتَيْ سِرٍّ وعلانية . الثالث : أنهمانصوبان على المصدرِ ، أي إنفاق سرّ وإنفاق علانية .

قوله : " مِنْ قبل " متعلِّقٌ ب " يُقيموا " و " يُنْفِقوا " ، أي : يفعلون ذلك قبل هذا اليوم .

وقد تقدَّم خلاف القراء في { لاَّ بَيْعٌ فِيهِ وَلاَ خِلاَلٌ } . والخِلال : المُخالَّة وهي المصاحبةُ . يقال : خالَلْتُه خِلالاً ومُخَالَّةً . قال طرفة :

كلُّ خليلٍ كنتُ خالَلْتُه *** لا تَرَكَ اللهُ له واضِحَهْ

وقال امرؤ القيس :

صَرَفْتُ الهَوَى عنهنَّ مِنْ خشيةِ الرَّدى *** ولستُ بمَقْلِيِّ الخِلالِ ولا قالِ

وقال الأخفش : " خِلال جمعاً لخُلَّة ، نحو : بُرْمَة وبِرام " .