الدر المصون في علم الكتاب المكنون للسمين الحلبي - السمين الحلبي  
{وَٱجۡعَل لِّي وَزِيرٗا مِّنۡ أَهۡلِي} (29)

قوله : { وَاجْعَل لِّي وَزِيراً } : يجوز أَنْ يكونَ " لي " مفعولاً ثانياً مقدماً ، و " وزيراً " هو المفعولُ الأول . و " مِنْ أهلي " على هذا يجوز أَنْ يكونَ صفةً ل " وزيراً " . ويجوز أن يكونَ متعلِّقاً بالجَعْلِ .

و " هارونَ " بدلٌ مِنْ " وزيراً " . وجَوَّز أبو البقاء أن يكونَ " هارونَ " عطفَ بيانٍ ل " وزيراً " . ولم يذكر الزمخشريُّ غيرَه . ولَمَّا حكى الشيخُ هذا لم يُعْقِبْه بنَكير ، وهو عجيبٌ منه ؛ فإنَّ عطفَ البيان يُشترط فيه التوافقُ تعريفاً وتنكيراً ، وقد عَرَفْتَ أنَّ " وزيراً " نكرةٌ و " هارونَ " معرفة ، والزمخشري قد تقدَّم له مثلُ ذلك في قوله تعالى : { فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ } [ آل عمران : 97 ] وقد تقدم الكلام معه هناك وهو عائد هنا .

ويجوز أَنْ يكونَ " هارونَ " منصوباً بفعلٍ محذوف كأنه قال : أخصُّ من بينهِم هارون أي : مِنْ بينِ أهلي . ويجوز أَنْ يكونَ " وزيراً " مفعولاً ثانياً ، و " هارونَ " هو الأول ، وقَدَّم الثاني عليه اعتناءً بأَمْرِ الوِزارة . وعلى هذا فقولُه " لي " يجوز أن يتعلَّق بنفسِ الجَعْل ، وأَنْ يتعلقَ بمحذوفٍ على أنه حالٌ مِنْ " وزيراً " ؛ إذ هو في الأصل صفةُ له . و " مِنْ أهلي " على ما تقدَّم من وَجْهَيْه . ويجوز أن يكون " وزيراً " مفعولاً أولَ ، و " مِنْ أهلي " هو الثاني . وقوله " لي " مثلُ قولِه { وَلَمْ يَكُنْ لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ } [ الإخلاص : 4 ] يَعْنُون أنه به يتمُّ المعنى ، ذكر ذلك أبو البقاء . ولَمَّا حكاه الشيخ لم يتعقبه بنكير ، وهو عجيب ؛ لأنَّ شرطَ المفعولَيْن في باب النواسخ صحةٌ انعقادِ الجملة الاسمية ، وأنت لو ابتَدَأْتَ ب " وزير " وأخبرْتَ عنه ب " من أهلي " لم يَجُزْ إذ لا مُسَوِّغ للابتداءِ به .

و " أخي " بدلٌ أو عطفُ بيانٍ ل " هارونَ " . وقال الزمخشري : " وإنْ جُعِل عطفَ بيانٍ آخرَ جاز وحَسُنَ . قال الشيخ : " ويَبْعُدُ فيه عطفُ البيان ؛ لأنَّ عطفَ البيان الأكثرُ فيه أن يكونَ الأولُ دونَه في الشُّهرة وهذا بالعكس " . قلت : لم يُرِدْ الزمخشري أنَّ " أخي " عطفُ بيانٍ ل " هارون " حتى يقول الشيخ إن الأولَ وهو " هارون " أشهرُ من الثاني وهو " أخي " ، إنما عَنَى الزمخشريُّ أنه عطفُ بيان أيضاً ل " وزيراً " ولذلك قال : " آخَر " . ولا بُدَّ من الإِتيان بلفظِه ليُعْرَفَ أنه لم يُرِدْ إلاَّ ما ذكرتُه قال : " وزيراً وهارونَ مفعولا قولِه " اجعَلْ " ، أو " لي وزيراً " مفعولاه ، و " هارونَ " عطفُ بيان للوزير ، و " أخي " في الوجهين بدلٌ من " هارون " ، وإن جُعل عطفَ بيانٍ أخرَ جاز وحَسُن " .

فقوله " آخر " تعيَّنَ أن يكونَ عطفَ بيانٍ لما جعله عنه عطف بيان قبل ذلك .

وجَوَّز الزمخشري في " أخي " أن يرتفعَ بالابتداء ، ويكونَ خبرُه الجملةَ مِنْ قوله : " اشْدُدْ به " ، وذلك على قراءةِ الجمهور له بصيغة الدعاء ، وعلى هذا فالوقفُ على " هارونَ " .

وقرأ ابن عامر " أَشْدُدْ " بفتح الهمزة للمضارعة وجزمِ الفعلِ جواباً للأمر ، " وأُشْرِكْهُ " بضم الهمزة للمضارعة وجزمِ الفعلِ نَسَقاً على ما قبلَه . وقرأ الباقون بحذف همزة الوصل من الأول ، وفتحِ همزة القطع في الثاني ، على أنهما دعاءٌ من موسى لربِّه بذلك . وعلى هذه القراءة تكون هذه الجملةُ قد تُرِكَ فيها العطفُ خاصةً دونَ ما تقدَّمَها مِنْ جمل الدعاء .

وقرأ الحسنُ " أُشَدِّدُ " مضارعَ شَدَّد بالتشديد .

والوَزير : قيل : مشتقٌّ من الوِزْر وهو الثِّقَل . وسُمِّي بذلك لأنه يَحْمل أعباءَ المُلْكِ ومُؤَنَهُ فهو مُعِيْنٌ على أمر/ الملك ويأتَمُّ بأمره . وقيل : بل هو من الوَزَرِ وهو الملجأُ ، كقوله تعالى : { لاَ وَزَرَ } [ القيامة : 11 ] وقال :

من السِّباع الضَّواري دونَه وَزَرٌ *** والناسُ شَرُّهُمُ ما دونَه وَزَرُ

كم مَعْشرٍ سَلِموا لم يُؤْذِهِمْ سَبُعٌ *** وما نَرَى بَشَراً لم يُؤْذِهِمْ بَشَرُ

وقيل : من المُؤَازَرَة وهي المعاونةُ . نقله الزمخشري عن الأصمعي قال : " وكان القياسُ أَزِيراً " يعني بالهمزةِ ؛ لأنَّ المادةَ كذلك . قال الزمخشريُّ : " فَقُلِبَت الهمزةُ إلى الواو ، ووجهُ قَلْبِها إليها أنَّ فَعيلاً جاء بمعنى مُفاعِل مجيئاً صالحاً كقولهم : عَشِير وجَلِيس وخليط وصديق وخليل ونديم ، فلمَّا قُلِبت في أخيه قُلِبَتْ فيه ، وحَمْلُ الشيءِ على نظيره ليس بعزيزٍ ، ونظراً إلى يُوازِرُ وأخواتِه وإلى المُوَازَرة " .

قلت : يعني أنَّ وزيراً بمعنى مُوازِر ، ومُوازر تقلب فيه الهمزةُ واواً قلباً قياسياً ؛ لأنها همزةُ مفتوحةٌ بعد ضمه فهو نظيرُ " مُوَجَّل " و " يُوَاخذكم " وشبهِه ، فحُمِل " أزير " عليه في القلب ، وإن لم يكنْ فيه سببُ القلبِ .