الدر المصون في علم الكتاب المكنون للسمين الحلبي - السمين الحلبي  
{إِنَّ ٱلسَّاعَةَ ءَاتِيَةٌ أَكَادُ أُخۡفِيهَا لِتُجۡزَىٰ كُلُّ نَفۡسِۭ بِمَا تَسۡعَىٰ} (15)

قوله : { أَكَادُ أُخْفِيهَا } العامةُ على ضمِّ الهمزةِ مِنْ " أُخْفيها " . وفيها تأويلاتٌ ، أحدُها : أن الهمزةَ في " أُخْفيها " للسَّلْبِ والإِزالةِ أي : أُزيل خفاءَها نحو : أعجمتُ الكتابَ أي : أزلْتُ عُجْمَتَه . ثم في ذلك معنيان ، أحدهما : أنَّ الخفاءَ بمعنى السَّتْر ، ومتى أزال سَتْرَها فقد أظهرَها . والمعنى : أنها لتحقُّق وقوعِها وقُرْبِها أكادُ أُظْهِرُها لولا ما تَقْتضيه الحكمةُ من التأخير . والثاني : أنَّ الخفاءَ هو الظهورُ كما سيأتي . والمعنى : أزيلُ ظهورَها ، وإذا أزالَ ظهورَها فقد استترَتْ . والمعنى : أني لِشدَّةِ أبهامها أكاد أُخْفيها فلا أُظْهِرُها/ البتةَ ، وإن كان لا بد من إظهارِها ؛ ولذلك يوجدُ في بعض المصاحف كمصحف أُبَيّ : أكاد أُخْفيها مِنْ نفسي فكيف أُظْهِرُكُمْ عليها ؟ وهو على عادةِ العرب في المبالغة في الإِخفاء قال :

أيامَ تَصْحَبُني هندٌ وأُخْبِرُها *** ما كِدْت أكتُمُه عني من الخبرِ

وكيف يُتَصَوَّرُ كِتْمانُه مِنْ نفسه ؟

والتأويلُ الثاني : أنَّ " كاد " زائدةٌ . قاله ابنُ جُبَيْر . وأنشدَ غيرُه شاهداً عليه قولَ زيدِ الخيل :

سريعٌ إلى الهَيْجاء شاكٍ سلاحُه *** فما إنْ يكادُ قِرْنُه يتنفَّسُ

وقال آخر :

وألاَّ ألومَ النفسَ فيما أصابني *** وألا أكادَ بالذي نِلْتُ أَبْجَحُ

ولا حُجَّةَ في شيءٍ منه .

والتأويل الثالث : أنَّ الكَيْدُوْدَةَ بمعنى الإِرادة ونُسِبت للأخفش وجماعةٍ ، ولا ينفعُ فيما قصدوه .

والتأويل الرابع : أنَّ خبرَها محذوفٌ تقديره : أكاد آتي به لقُرْبها . وأنشدوا قول ضابىء البرجمي :

هَمَمْتُ ولم أفْعَلْ وكِدْتُ وليتني *** تَرَكْتُ على عثمانَ تَبْكي حلائِلُهْ

أي : وكِدْتُ أفعلُ ، فالوقفُ على " أكادُ " ، والابتداء ب " أُخْفيها " ، واستحسنه أبو جعفر .

وقرأ أبو الدرداء وابنُ جبير والحسنُ ومجاهدٌ وحميدٌ " أَخْفيها " بفتح الهمزة . والمعنى : أُظْهرها ، بالتأويل المتقدم يقال : خَفَيْتُ الشيءَ : أظهَرْتُه ، وأَخْفَيْتُه : سترته ، هذا هو المشهور . وقد نُقِل عن أبي الخطاب أنَّ خَفَيْتُ وأَخْفَيْتُ بمعنىً . وحُكي عن أبي عبيد أنَّ " أَخْفى " من الأضدادِ يكون بمعنى أظهر وبمعنى سَتَر ، وعلى هذا تَتَّحد القراءتان . ومِنْ مجيءِ خَفَيْتُ بمعنى أظهَرْت قولُ امرىء القيس :

خَفَاهُنَّ مِنْ أَنْفاقِهِنَّ كأنما *** خفاهُنَّ وَدْقٌ مِنْ عَشِيٍّ مُجَلِّبِ

وقول الآخر :

فإنْ تَدْفِنوا الداءَ لا نَخْفِهِ *** وإنْ تُوْقِدُوْا الحربَ لا نَقْعُدِ

قوله : { لِتُجْزَى } هذه لامُ كي ، وليسَتْ بمعنى القسمِ أي : لَتُجْزَيَنَّ كما نقله أبو البقاء عَنْ بعضهم . وتتعلَّق هذه اللامُ ب " اُخْفيها " . وجعلها بعضُهم متعلقةً ب " آتيةٌ " وهذا لا يَتِمُّ إلاَّ إذا قَدَّرْتَ أنَّ " أكاد أُخْفيها " معترضةٌ بين المتعلَّقِ والمتعلَّقِ به ، أمَّا إذا جعلتَها صفةً لآتِيَةٌ فلا يتجه على مذهب البصريين ؛ لأن اسمَ الفاعلِ متى وُصِفَ لم يعملْ ، فإنْ عَمِل ثم وُصِف جاز .

وقال أبو البقاء : " وقيل ب " آتِيَةٌ " ، ولذلك وَقَفَ بعضُهم عليه وَقْفَةً يسيرةً إيذاناً بانفصالِها عن أخفيها " .

قوله : { بِمَا تَسْعَى } متعلقٌ ب " تُجْزَى " . و " ما " يجوز أَنْ تكونَ مصدريةً أو موصولةً اسميةً ، ولا بدَّ من مضاف أي : تُجْزى بعقابِ سَعْيها أو بعقابِ ما سَعَتْه .