الدر المصون في علم الكتاب المكنون للسمين الحلبي - السمين الحلبي  
{يَوۡمَ تَرَوۡنَهَا تَذۡهَلُ كُلُّ مُرۡضِعَةٍ عَمَّآ أَرۡضَعَتۡ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمۡلٍ حَمۡلَهَا وَتَرَى ٱلنَّاسَ سُكَٰرَىٰ وَمَا هُم بِسُكَٰرَىٰ وَلَٰكِنَّ عَذَابَ ٱللَّهِ شَدِيدٞ} (2)

قوله : { يَوْمَ } : فيه أوجهٌ ، أحدُها : أَنْ يَنْتَصِبَ ب " تَذْهَلُ " ولم يذكُرِ الزمخشريُّ غيره . الثاني : أنه منصوبٌ ب " عظيم " . الثالث : أنه منصوبٌ بإضمار اذكر . الرابع : أنه بدلٌ من الساعة . وإنما فُتح لأنه مبنيٌّ لإِضافتِه إلى الفعلِ . وهذا إنما يَتَمَشَّى على قولِ الأخفش ، وقد تَقَدَّم تحقيقُه آخرَ المائدة . الخامس : أنه بدلٌ من " زلزلة " بدلُ اشتمالٍ ؛ لأنَّ كلاً من الحدثِ والزمانِ يَصْدُقُ أنه مشتملٌ على الآخر ، ولا يجوزُ أَنْ ينتصِبَ ب " زلزلة " لِمَا يَلْزَمُ من الفصلِ بين المصدرِ ومعمولِه بالخبر .

قوله : { تَرَوْنَهَا } في هذا الضميرِ قولان ، أظهرهما : أنه ضميرُ الزلزلةِ لأَنها المحدَّثُ عنها ، ويؤيِّدُه أيضاً قولُه { تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ } . والثاني : أنه ضميرُ الساعةِ . فعلى الأولِ يكونُ الذُّهولُ والوَضْعُ حقيقةً لأنه في الدنيا ، وعلى الثاني يكونُ على سبيلِ التعظيم والتهويل ، وأنها بهذه الحيثيةِ ، إذ المرادُ بالساعةِ القيامةُ ، وهو كقولِه : { يَوْماً يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيباً } [ المزمل : 17 ] .

قوله : { تَذْهَلُ } في محلِّ نصب على الحال من " ها " في " تَرَوْنَها " فإنَّ الرؤيَةَ هنا بَصَريةٌ ، وهذا إنما يَجِيْءُ على غيرِ الوجهِ الأولِ . وأمَّا الوجهُ الأولُ وهو أنَّ " تَذْهَلُ " ناصِبٌ ل " يومَ تَرَوْنَها " فلا محلَّ للجملةِ من الإِعرابِ لأنها مستأنفةٌ ، أو يكونُ محلُّها النصبَ على الحال من الزلزلة ، أو من الضمير في " عظيم " ، وإنْ كان مذكراً ، لأنَّه هو الزَّلْزَلَةُ في المعنى ، أو من الساعة ، وإن كانت مضافاً إليها ، لأنها : إمَّا فاعلٌ أو مفعولٌ كما تقدَّم . وإذا جَعَلْناها حالاً فلا بُدَّ من ضميرٍ محذوفٍ تقديرُه : تَذْهَلُ فيها .

وقرأ العامة " تَذْهَلُ " بفتح التاءِ والهاءِ ، مِنْ ذَهِل عن كذا يَذْهَلُ . وقرأ ابن أبي عبلة واليماني بضم التاء وكسرِ الهاءِ ونصبِ " كل " على المفعولية ، مِنْ أَذْهَلَه عن كذا يُذْهِله عَدَّاه بالهمزةِ ، والذُّهولُ : الاشتغالُ عن الشيءِ . وقيل : إذا كان مع دَهْشَة . وقيل : إذا كان ذلك لطَرَآنِ شاغِلٍ مِنْ هَمٍّ ومَرَضٍ ونحوِهما . وذُهْل بنُ شَيْبان أصلُه من هذا .

والمُرْضِعَةُ : مَنْ تَلَبَّسَتْ بالفعل ، والمُرْضِعُ : مَنْ شَأْنُها أَنْ تُرْضِعَ كحائض ، فإذا أريد التلبُّسُ قيل : حائِضة .

قال الزمخشري : " فإن قلتَ : لِمَ قيل مُرْضِعَة دون مُرْضع ؟ قلت : المُرْضِعَةُ التي هي في حال الإِرضاعِ ملقمةٌ ثديَها الصبيَّ ، والمرضعُ التي مِنْ شأنِها أَنْ تُرْضِعَ وإن لم تباشِرْ الإِرضاعَ في حالِ وَصْفِها به " والمعنى : إنَّ مِنْ شِدَّة الهَوْلِ تَذْهَلُ هذه عن ولدِها فكيف بغيرِها ؟ وقال بعضُ الكوفيين : المُرْضِعَةُ تقال للأمِّ ، والمُرْضِعُ تقال للمستأجَرَةِ غيرِ الأمِّ ، وهذا مردودٌ بقولِ الشاعر :

كمُرْضِعَةٍ أولادَ أخرى وضَيَّعَتْ *** بني بطنِها هذا الضلالُ عن القصدِ

فأَطْلَقَ المُرْضِعَةَ بالتاء على غير الأمِّ .

وقولُ العرب مُرْضِعَة يَرُدُّ أيضاً قولَ الكوفيين : إنَّ الصفاتِ المختصةَ بالمؤنثِ لا يلحقها تاءُ التأنيثِ نحو : حائِض وطالق . فالذي يُقال : إنْ قُصِد النَّسَبُ فالأمرُ على ما ذَكَروا ، وإنْ قُصِد الدلالةُ على التلبُّسِ بالفعلِ وَجَبَتِ التاءُ فيقال : حائضة وطالقة وطامِثة .

قوله : { عَمَّآ أَرْضَعَتْ } يجوزُ في " ما " أَنْ تكونَ مصدريةً أي : عن إرْضاعِها . ولا حاجةَ إلى تقديرِ حَذْفٍ على هذا . ويجوزُ أَنْ تكونَ بمعنى الذي فلا بُدَّ من حَذْفِ عائدٍ أي : أَرْضَعَتْه . ويُقَوِّيه تعدِّي " تَضَعُ " إلى مفعولٍ دونَ مصدرٍ . والحَمْلُ بالفتحِ : ما كان في بَطْنٍ أو على رأسِ شجرة ، وبالكسرِ ما كان على ظَهْرٍ .

قوله : { وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى } العامَّةُ على فتحِ التاءِ من " ترى " على خطابِ الواحد . وقرأ زيدُ بن علي بضمِّ التاءِ وكسرِ الراءِ ، على أنَّ الفاعلَ ضميرُ الزلزلةِ أو الساعةِ . وعلى هذه القراءةِ فلا بُدَّ من مفعولٍ أولَ محذوفٍ ليَتِمَّ المعنى به أي : وتُرِي الزلزلةُ أو الساعةُ الخَلْقَ الناسَ سُكارى . ويؤيِّد هذا قراءةُ أبي هريرة وأبي زرعة وأبي نهيك " تُرَى الناس سكارى " . بضمِّ التاء وفتح الراء على ما لم يُسَمَّ فاعله ، ونصب " الناسَ " ، بَنَوْه من المتعدِّي لثلاثةٍ : فالأولُ قام مَقامَ الفاعلِ ، وهو ضميرُ الخطابِ ، و " الناسَ سُكارى " هما الأولُ والثاني . ويجوز أن يكونَ متعدِّياً لاثنين فقط على معنى : وتُرِي الزلزلةُ أو الساعةُ/ [ الناسَ ] قوماً سُكارى . فالناسَ هو الأول و " سُكارى " هو الثاني .

وقرأ الزعفرانيُّ وعباسٌ في اختياره " وتُرى " كقراءة أبي هريرة إلاَّ أنهما رفعاً " الناسُ " على أنه مفعول لم يُسَمَّ فاعلُه . والتأنيثُ في الفعلِ على تأويلِهم بالجماعة .

وقرأ الأخَوان " سَكْرَى " " وما هم بسَكْرى " على وزنِ وَصْفِ المؤنثةِ بذلك . واخْتُلف في ذلك : هل هو صيغةٌ جمعٍ على فَعْلَى كمَرْضى وقَتْلى ، أو صفةٌ مفردةٌ اسْتُغني بها في وصفِ الجماعة ؟ خلافٌ مشهورٌ تقدَّمَ الكلامُ عليه في قوله : " أَسْرَى " . وظاهرُ كلامِ سيبويه أنه جمعُ تكسيرٍ فإنه قال : " وقومٌ يقولون : سَكْرى ، جَعَلوه مثلَ مَرْضَى لأنهما شيئان يَدْخلان على الإِنسان ، ثم جَعَلوا " رَوْبى " مثلَ سَكْرى وهم المُسْتَثْقلون نَوْماً من شربِ الرائب . وقال الفارسي : " ويَصِحُّ أن يكونَ جمعَ " سَكِر " كزَمِن وزَمْنَى . وقد حُكي " رجلٌ سَكِر " بمعنى سَكْران فيجيءُ سَكْرَى حينئذٍ لتأنيث الجمع " . قلت : ومِنْ ورودِ " سَكِر " بمعنى سَكْران قولُه :

وقد جَعَلْتُ إذا ما قُمْتُ يُثْقِلُني *** ثَوْبي فأنهضُ نَهْضَ الشاربِ السَّّكِرِ

وكنتُ أَمْشي على رِجْلين مُعْتَدِلاً *** فصِرْتُ أَمْشِي على أُخْرى من الشَّجر

ويُروى البيتُ الأول " الشارِبِ الثَّمِلِ " ، والأولُ أَصَحُّ لدلالةِ البيت الثاني عليه .

وقرأ الباقون " سُكارَى " بضمِّ السين .

وقد تَقَدَّم لنا في البقرة خلافٌ : هل هذه الصيغةُ جمعُ تكسيرٍ أو اسمُ جمع ؟

وقرأ أبو هريرةَ وأبو نهيك وعيسى بفتح السين فيهما ، وهو جمع تكسير ، واحدُه سَكْران . قال أبو حاتم : " وهي لغةُ تميم " .

وقرأ الحسنُ والأعرج وأبو زرعة والأعمش " سُكْرى " " بِسُكْرى " بضمِّ السين فيهما . فقال ابن جني : " هي اسمٌ مفردٌ كالبُشْرَى . بهذا أفتاني أبو علي " . وقال أبو الفضل : " فُعْلَى بضمِّ الفاءِ مِنْ صفةِ الواحدةِ من الإِناثِ ، لكنها لَمَّا جُعِلَتْ من صفاتِ الناس وهم جماعة ، أُجْرِيَتْ الجماعة بمنزلة المؤنثِ الموحَّدِ " . وقال الزمخشري : " هو غريبٌ " . قلت : ولا غرابةَ ؛ فإنَّ فُعْلَى بضم الفاء كَثُر مجيئُها في أوصافِ المؤنثة نحو الرُّبَّى والحُبْلَى وجَوَّز أبو البقاء فيه أن يكونَ محذوفاً مِنْ سُكارى . وكان مِنْ حَقِّ هذا القارىء أَنْ يُحَرِّكَ الكافَ بالفتح إبقاءً لها على ما كانَتْ عليه . وقد رواها بعضُهم كذلك عن الحسن . وقُرِىء " ويُرَى الناسُ " بالياء من تحت ورفع " الناسُ " .

وقرأ أبو زرعة في روايةٍ " سَكْرى " بالفتح ، " بسُكْرى " بالضم . وعن ابن جبير كذلك ، إلاَّ أنه حَذَف الألفَ من الأول دون الثاني .

وإثباتُ السُّكْرِ وعَدَمُه بمعنى الحقيقة والمجاز أي : وترى الناس سَكْرى على التشبيه ، وما هم بسَكْرى على التحقيق . قال الزمخشري : " فإنْ قلتَ : لِمَ قيل أولاً : تَرَوْن ، ثم قيل : " تَرَى " على الإِفراد ؟ قلت : لأنَّ الرؤيةَ أولاً عُلِّقَتْ بالزلزلة ، فَجُعِل الناسُ جميعاً رائِيْنَ لها ، وهي معلَّقَةٌ أخيراً بكونِ الناسِ على حالِ السُّكر ، فلا بُدَّ أن يُجْعَلَ كلُّ واحدٍ منهم رائياً لسائرِهم " .