الدر المصون في علم الكتاب المكنون للسمين الحلبي - السمين الحلبي  
{۞وَهُوَ ٱلَّذِي مَرَجَ ٱلۡبَحۡرَيۡنِ هَٰذَا عَذۡبٞ فُرَاتٞ وَهَٰذَا مِلۡحٌ أُجَاجٞ وَجَعَلَ بَيۡنَهُمَا بَرۡزَخٗا وَحِجۡرٗا مَّحۡجُورٗا} (53)

قوله : { مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ } : في مَرَجَ قولان ، أحدهما : بمعنى : خَلَطَ ومَرَجَ ، ومنه مَرَجَ الأمرُ أي : اختلط قاله ابن عرفة . وقيل : مَرَجَ : أجرى . وأَمْرَجَ لغةٌ فيه . قيل : مَرَجَ لغةُ الحجاز ، وأَمْرَجَ لغةُ نجدٍ . وفي كلامِ بعضِ الفصحاء : " بَحْران أحدُهما بالآخرِ ممروجٌ ، وماءُ العذب منهما بالأُجاج ممروج " .

قوله : { هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ } هذه الجملةُ لا محلَّ لها لأنها مستأنفةٌ ، جوابٌ لسؤالٍ مقدرٍ . كأنَّ قائلاً قال : كيف مرْجُهما ؟ فقيل : هذا عَذْبٌ وهذا مِلْحٌ . ويجوز على ضَعْفٍ أن تكونَ حاليةً . والفُراتُ المبالِغُ في الحلاوةِ . والتاءُ فيه أصليةٌ لامُ الكلمةُ . ووزنُه فُعال ، وبعضُ العربِ يقفُ عليها هاءً . وهذا كما تقدَّم لنا في التابوت . ويُقال : سُمِّي الماءُ الحُلْوُ فُراتاً ؛ لأنه يَفْرُتُ العطشَ أي : يَشُقُّه ويَقْطَعُه . والأُجاج : المبالِغُ في الملُوحة . وقيل : في الحرارةِ . وقيل : في المَرارة ، وهذا من أحسنِ المقابلةِ ، وحيث قال تعالى عَذْبٌ فُراتٌ ومِلْحٌ أُجاجٌ . وأنشدْتُ لبعضهم :

فلا واللهِ لا أَنْفَكُّ أَبْكي *** إلى أَنْ نَلْتَقِي شُعْثاً عُراتا

أَأُلَْحَى إنْ نَزَحْتُ أُجاجَ عَيْني *** على جَدَثٍ حَوَى العَذْبَ الفُراتَا

ما أحسنَ ما كنى عن دَمْعِه بالأجاج ، وعن المبكيِّ عليه بالعذب الفُراتِ ، وكان سببَ إنشادِي هذين البيتين أنَّ بعضَهم لحَّن قائلَهما في قولِه " عُراتا " : كيف يَقِفُ على تاءِ التأنيث المنونة بالألفِ ؟ فقلت : إنها لغةٌ مستفيضةٌ يَجْعلون التاءَ كغيرِها فيُبْدلون تنوينَها بعد الفتحِ ألفاً . حَكَوْا عنهم . أكلْتُ تَمْرَتا ، نحو : أكلْتُ زَيْتا .

وقرأ طلحة وقتيبة عن الكسائي " مَلِحٌ " بفتح الميم وكسرِ اللام ، وكذا في سورة فاطر ، وهو مقصورٌ مِنْ مالح ، كقولهم : بَرِد في بارد قال :

وصِلِّيانا بَرِدا ***

وماء مالح لغةٌ شاذةٌ . وقال أبو حاتم : " وهذه قراءةٌ مُنْكَرَةٌ " .

قوله : { وَحِجْراً مَّحْجُوراً } : الظاهرُ عطفُه على " بَرْزَخاً " . وقال الزمخشري : " فإنْ قلتَ : حِجراً مَحْجُوراً ما معناه ؟ قلت : هي الكلمةُ التي يَقُولُها المتعوِّذُ ، وقد فَسَّرناها ، وهي هنا واقعةٌ على سبيلِ المجازِ . كأنَّ كلَّ واحدٍ من البحرَيْن يقول لصاحبِه : حِجْراً مَحْجُوراً ، وهي من أحسنِ الاستعاراتِ " ، فعلى ما قالَه يكونُ منصوباً بقولٍ مضمرٍ .

قوله : { بَيْنَهُمَا بَرْزَخاً } يجوزُ أَنْ يكونَ الظرفُ متعلِّقاً بالجَعْل ، وأَنْ يتعلَّق بمحذوفٍ على أنَّه حالٌ مِنْ " بَرْزَخاً " ، والأولُ أظهرُ .