تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير  
{۞وَهُوَ ٱلَّذِي مَرَجَ ٱلۡبَحۡرَيۡنِ هَٰذَا عَذۡبٞ فُرَاتٞ وَهَٰذَا مِلۡحٌ أُجَاجٞ وَجَعَلَ بَيۡنَهُمَا بَرۡزَخٗا وَحِجۡرٗا مَّحۡجُورٗا} (53)

وقوله : { وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ } أي : خلق الماءين : الحلو والملح ، فالحلو كالأنهار والعيون والآبار ، وهذا هو البحر الحلو الفرات العذب الزلال . قاله ابن جريج ، واختاره ابن جرير ، وهذا الذي لا شك فيه ، فإنه ليس في الوجود بحر ساكن وهو عذب فرات . والله سبحانه إنما أخبر بالواقع{[21555]} لينبه العباد على نعمه عليهم ليشكروه ، فالبحر العذب هو هذا السارح بين الناس ، فرقه تعالى بين خلقه لاحتياجهم إليه أنهارًا وعيونًا في كل أرض بحسب حاجتهم وكفايتهم لأنفسهم وأراضيهم .

وقوله : { وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ } أي : مالح مُرّ زعاق لا يستساغ ، وذلك كالبحار المعروفة في المشارق والمغارب : البحر المحيط وما يتصل به من الزقاق وبحر القلزم ، وبحر اليمن ، وبحر البصرة ، وبحر فارس وبحر الصين والهند وبحر الروم وبحر الخزر ، وما شاكلها وشابهها{[21556]} من البحار الساكنة التي لا تجري ، ولكن تتموج وتضطرب وتغتلم في زمن الشتاء وشدة الرياح ، ومنها ما فيه مد وجَزْر ، ففي أول كل شهر يحصل منها مد وفيض{[21557]} ، فإذا شرع الشهر في النقصان جَزَرت ، حتى ترجع إلى غايتها الأولى ، فإذا استهل الهلال من الشهر الآخر شرعت في المد إلى الليلة الرابعة عشرة{[21558]} ثم تشرع في النقص ، فأجرى الله سبحانه وتعالى - وله القدرة التامة - العادة بذلك . فكل هذه البحار الساكنة خلقها الله سبحانه وتعالى مالحة الماء ، لئلا يحصل بسببها نتن الهواء ، فيفسد الوجود بذلك ، ولئلا تجوى الأرض بما يموت فيها من الحيوان . ولما كان ماؤها ملحا كان هواؤها صحيحا وميتتها طيبة ؛ ولهذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد سئل عن ماء البحر : أنتوضأ به ؟ فقال : " هو الطهور ماؤه ، الحل ميتته " . رواه الأئمة : مالك ، والشافعي ، وأحمد ، وأهل السنن بإسناد جيد{[21559]} .

وقوله : { وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخًا وَحِجْرًا } أي : بين العذب والمالح { برزخا } أي : حاجزاً ، وهو اليَبَس من الأرض ، { وَحِجْرًا مَحْجُورًا } أي : مانعاً أن يصل أحدهما إلى الآخر ، كما قال : { مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ * بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لا يَبْغِيَانِ * فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ } [ الرحمن : 19 - 21 ] ، وقال تعالى : { أَمَّنْ جَعَلَ الأرْضَ قَرَارًا وَجَعَلَ خِلالَهَا أَنْهَارًا وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزًا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ } [ النمل : 61 ] .


[21555]:- في أ : "عن الواقع".
[21556]:- في أ : "وأشبهها".
[21557]:- في أ : "وقيض".
[21558]:- في أ : "عشر".
[21559]:- سبق تخريجه عند تفسير الآية : 3 من سورة المائدة.