اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{۞وَهُوَ ٱلَّذِي مَرَجَ ٱلۡبَحۡرَيۡنِ هَٰذَا عَذۡبٞ فُرَاتٞ وَهَٰذَا مِلۡحٌ أُجَاجٞ وَجَعَلَ بَيۡنَهُمَا بَرۡزَخٗا وَحِجۡرٗا مَّحۡجُورٗا} (53)

قوله تعالى : { وَهُوَ الذي مَرَجَ البحرين } الآية . هذا النوع الرابع . في «مَرَجَ » قولان :

أحدهما : بمعنى خلط ومرج ، ومنه مرج الأمر أي : اختلط قاله ابن عرفة{[36394]} .

وقيل : «مرج » أجرى{[36395]} ، وأمرج لغة فيه{[36396]} .

( و ){[36397]} قيل : مرج لغة الحجاز ، وأمْرَجَ لغة نجد{[36398]} ، وفي كلام بعض الفصحاء : بحران أحدهما بالآخر مَمْرُوج ، وماء العذب منهما بالأجاج ممزوج{[36399]} . وقيل : أرسلهما في مجاريهما وخلاَّهما كما ترسل الخيل في المرج قاله ابن عباس{[36400]} .

وأصل المرج الخلط والإرسال يقال : مرجت الدابة وأمرجتها إذا أرسلتها في المرعى وخليتها تذهب حيث تشاء{[36401]} .

قوله { هذا عَذْبٌ فُرَاتٌ وهذا مِلْحٌ أُجَاجٌ } هذه الجملة لا محل لها ، لأنها مستأنفة{[36402]} جواب لسؤال مقدر كأن قائلاً قال : كيف مرجهما ؟ قيل : هذا عذب وهذا ملح .

ويجوز على ضعف أن تكون حالية{[36403]} . والفرات : المبالغ في الحلاوة{[36404]} ، والتاء فيه أصلية لام الكلمة ، ووزنه فعال{[36405]} . وبعض العرب يقف عليها هاء ، وهذا كما تقدم في التابوت{[36406]} . ويقال : سمي الماء الحلو فراتاً ، لأنه يفرت العطش أي : يشقه ويقطعه والأُجاج : المبالغ في الملوحة ، وقيل : في الحرارة ، وقيل في المرارة{[36407]} . وهذا من أحسن المقابلة{[36408]} ، حيث قال تعالى : { عَذْبٌ فُرَاتٌ وهذا مِلْحٌ أُجَاجٌ } وأنشد بعضهم :

فَلاَ واللَّهِ لاَ أَنْفَكُّ أَبكي *** ( إلى أَنْ نَلْتَقِي شُعْثاً عُراتَا ) {[36409]}

أَأُلْحَى إنْ نَزَحْتُ أُجَاجَ عَيْنِي *** عَلَى جَدَثٍ حَوَى العَذْبَ الفُرَاتَا{[36410]}

ما أحسن ما كنى عن دمعه بالأجاج ، وعن المبكي عليه بالعذب الفرات وكان سبب إنشاد هذين البيتين{[36411]} أن بعضهم لحن قائلهما{[36412]} في قوله : عراتا{[36413]} . كيف يقف على تاء التأنيث المنونة بالألف ؟ فقيل له : إنها لغة مستفيضة يجعلون التاء كغيرها فيبدلون تنوينها بعد الفتح ألفاً ، حكي عن العرب أكلت تمرتاً نحو أكلت زيتاً{[36414]} . وقرأ طلحة وقتيبة{[36415]} عن الكسائي «مَلِح » بفتح الميم وكسر اللام{[36416]} ، وكذا في سورة فاطر{[36417]} ، وهو مقصور من ( مالح ) كقولهم : برد في بارد ، قال :

وَصِلْيانا{[36418]} بَرِدا{[36419]} *** . . .

وماء مالح لغة شاذة{[36420]} . وقال أبو حاتم : هذه قراءة منكرة{[36421]} .

قوله : «بَيْنَهُمَا بَرْزَخاً » يجوز أن يكون الظرف متعلقاً بالجعل ، وأن يتعلق بمحذوف على أنه حال من «بَرْزَخاً »{[36422]} .

والأول أظهر . ومعنى «بَرْزَخاً » أي : حاجزاً بقدرته لئلا يختلط أحدهما بالآخر{[36423]} .

قوله : «وَحِجْراً مَحْجُوراً » الظاهر عطفه على «برزخاً »{[36424]} .

وقال الزمخشري : ( فإن قلت : «حِجْراً مَحْجُوراً » ){[36425]} ما معناه ؟ قلت هي الكلمة التي يقولها المتعوّذ ، وقد فسرناها ، وهي هنا واقعة على سبيل المجاز ، كأن واحداً من البحرين يقول لصاحبه : حجراً محجوراً كأنه يتعوذ من صاحبه ويقول له : حجراً محجوراً . كما قال : «لا يبغيان »{[36426]} . وهي من أحسن الاستعارات{[36427]} .

فعلى ما قاله يكون منصوباً بقول مضمر{[36428]} . فإن قيل : لا وجود للبحر العذب ، فكيف ذكره الله تعالى هنا ؟ لا يقال : هذا مدفوع من وجهين :

أحدهما : أن المراد منه الأودية العظام كالنيل وجيحون{[36429]} .

الثاني : لعله حصل في البحار موضع يكون أحد جانبيه عذباً والآخر ملحاً ، لأنا نقول : أما الأول فضعيف ، لأن هذه الأودية ليس فيها ماء ملح ، والبحار ليس فيها ماء عذب ، فلم يحصل البتة موضع التعجب وأما الثاني فضعيف ؛ لأن موضع الاستدلال لا بد وأن يكون معلوماً ، وأما بمحض التجويز فلا يحسن الاستدلال .

فالجواب{[36430]} : أنا نقول : المراد من البحر العذب هذه الأودية ومن البحر الأجاج البحار الكبار . { وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخاً } أي : حائلاً{[36431]} من الأرض ، ووجه الاستدلال هاهنا أن العذوبة والملوحة إن كانت بسبب طبيعة الأرض والماء ، فلا بد من الاستواء ، وإن لم يكن كذلك فلا بد من قادر حكيم يخص كل واحد من الأجسام بصفة خاصة{[36432]} . ويمكن الجواب بطريق آخر ، وهو أنا رأينا نيل مصر داخلاً في بحر ملح أبيض لونه مغاير للون بحر الملح ، ولا يختلط به ويؤخذ منه ويشرب .


[36394]:انظر القرطبي 13/58.
[36395]:نسب القرطبي ذلك إلى ثعلب 13/58.
[36396]:قال الأخفش: ويقول قوم: أمرج البحرين مثل مرج البحرين، فعل وأفعل بمعنى. انظر اللسان (مرج) والقرطبي 13/58.
[36397]:و: تكملة ليست في المخطوط.
[36398]:انظر البحر المحيط 6/478.
[36399]:انظر الكشاف 3/101.
[36400]:انظر الفخر الرازي 24/100.
[36401]:انظر البغوي 6/185، اللسان (مرج).
[36402]:في ب: لأنه مستأنف.
[36403]:في ب: عالية. وهو تحريف.
[36404]:الفرات: أشد الماء عذوبة، وفي التنزيل العزيز: "هذا عذب فرات وهذا ملح أجاج" وقد فرت الماء يفرت فروتة إذا عذب فهو فرات. اللسان (فرت).
[36405]:انظر التبيان 2/988.
[36406]:يشير إلى قوله تعالى: {وقال لهم نبيهم إن آية ملكه أن يأتيكم التابوت فيه سكينة من ربكم} [البقرة: 248].
[36407]:انظر اللسان (أجج).
[36408]:المقابلة من المحسنات البديعية، وهو أن يؤتى بمعنيين متوافقين، أو معان متوافقة، ثم بما يقابلهما أو يقابلها على الترتيب. انظر الإيضاح 353.
[36409]:ما بين القوسين سقط من ب.
[36410]:البيتان من بحر الوافر، لم أهتد إلى قائلهما، وهما في الدر المصون 5/141 (مخطوط) والشاهد فيهما أن الوقف على تاء التأنيث بالألف لغة فاشية، وأن هذا الذي قاله الشاعر ليس بلحن.
[36411]:في ب: هذا البيت.
[36412]:في ب: قائلة.
[36413]:في ب: فراتا.
[36414]:إذا كان الاسم مؤنثا بالهاء نحو رأيت قائمة، فإنك لا تبدل عند الوقف عليه من التنوين فيه ألفا، هذا على الأعرف من لسان العرب، وهم الذين يقفون بإبدال التاء هاء، وأما من يقف بالتاء، وهم بعض العرب، وهي لغة فاشية حكاها أبو الخطاب، فإنه يبدل من التنوين ألفا، فيقولون: رأيت قائمتا. وخرج بالمؤنث بالهاء المؤنث بالتاء نحو بنت وأخت فإنه يبدل فيه التنوين ألفا كغير المؤنث نحو رأيت بنتا وأختا. انظر الهمع 2/205، وانظر أيضا الدر المصون 5/141.
[36415]:هو قتبية بن مهران، أبو عبد الرحمن الأزاذاني إمام مقرئ ثقة، أخذ القراءة عرضا وسماعا عن الكسائي وسليمان بن مسلم بن جماز وغيرهما، وروى القراءة عنه عرضا وسماعا يونس بن حبيب وغيره، مات بعد المائتين من الهجرة. طبقات القراء 2/26 – 27.
[36416]:المختصر (105)، المحتسب 2/124، البحر المحيط 6/507.
[36417]:في قوله تعالى: {وهذا ملح أجاج} من الآية (12).
[36418]:في ب: وصلنا ما. وهو تحريف.
[36419]:رجز لم أهتد إلى قائله. وقد تقدم.
[36420]:انظر اللسان (ملح)، ووجه الشذوذ أنه لم يوصف إلا بالمصدر. البحر المحيط 6/507.
[36421]:انظر المحتسب 2/124، البحر المحيط 6/507.
[36422]:انظر التبيان 2/988.
[36423]:انظر الفخر الرازي 24/100، القرطبي 13/59.
[36424]:نقله أبو حيان عن الحوفي. انظر البحر المحيط 6/507.
[36425]:ما بين القوسين سقط من ب.
[36426]:من قوله تعالى: {بينهما برزخ لا يبغيان} [الرحمن: 20].
[36427]:انظر الكشاف 3/101.
[36428]:انظر البحر المحيط 6/507.
[36429]:في اللسان (جحن): الجوهري: جيحون نهر بلخ، وهو فيعول. وجيحان نهر بالشام. قال ابن بري: يحتمل أن يكون وزن جيحون فعلول مثل زيتون وحمدون.
[36430]:في ب: والمراد.
[36431]:في ب: حاجزا.
[36432]:انظر الفخر الرازي 24/100 – 101.