الدر المصون في علم الكتاب المكنون للسمين الحلبي - السمين الحلبي  
{إِنَّ مَثَلَ عِيسَىٰ عِندَ ٱللَّهِ كَمَثَلِ ءَادَمَۖ خَلَقَهُۥ مِن تُرَابٖ ثُمَّ قَالَ لَهُۥ كُن فَيَكُونُ} (59)

قوله تعالى : { إِنَّ مَثَلَ عِيسَى } : جملةٌ مستأنفةٌ لا تعلُّقَ لها بما قبلها تعلُّقاً صناعياً بل معنوياً ، وزعم بعضُهم أنَّها جوابٌ لقسم ، وذلك القسمُ هو قولُه : { وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ } كأنه قيل : أٌقْسم بالذكرِ الحكيم إِنَّ مثلَ عيسى ، فيكونُ الكلامُ قد تَمَّ عند قولِه : " من الآيات " ثم استأنف قسماً ، فالواوُ حرفُ جر لا حرفُ عطف ، وهذا بعيدٌ أو ممتنعٌ ، إذ فيه تفكيكٌ لنظمِ القرآن وإذهابٌ لرونقه وفصاحته .

قوله : { خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ } في هذه الجملة وجهان ، أظهرهما :

أنها مفسرةٌ لوجهِ التشبيه بين المَثَلين ، فلا محلَّ لها حينئذ من الإِعراب .

والثاني : أنها في محل نصب على الحال من آدمَ عليه السلام و " قد " معه مقدرةٌ ، والعاملُ فيها معنى التشبيه ، والهاءُ في " خَلَقه " عائدةٌ على آدم ، ولا تعودُ على عيسى لفسادِ المعنى ، وقال ابن عطية : " ولا يجوزُ أن يكون " خلقه " صلةً لآدم ولا حالاً منه ، قال الزجاج : " إذ الماضي لا يكونُ حالاً أنت فيها ، بل هو كلامٌ مقطوعٌ منه مُضَمَّنٌ تفسيرَ الشأن " قال الشيخ : " وفيه نظرٌ " ، ولم يُبَيِّنْ وجهَ النظرِ ، والظاهرُ من هذا النظرِ أنَّ الاعتراضَ وهو قولُه : " لا يكون حالاً أنت فيها " غيرُ لازم ، إذ تقديرُ " قد " معه يقرِّبُه من الحال ، وقد يَظْهَرُ الجواب عَمَّا قاله الزجاج من قول الزمخشري : " إنَّ المعنى : قَدَّره جسداً من طين ثم قال له : كن ، أي أَنْشَأه بشراً " . قال الشيخ : " ولو كان الخَلْقُ بمعنى الإِنشاء لا بمعنى التقديرِ لم يأتِ بقولِه " كن " لأنَّ ما خُلِقَ لا يقال له : كُنْ ، ولا يُنْشَأُ إلا إنْ كان معنى " ثم قال له كن " عبارةً عن نَفْخِ الروح فيه . " قلت : قد تعرَّض الواحدي لهذه المسألة فَأَتْقَنها فقال : " وهذا يعني قوله خلقه من تراب ليس بصلةٍ لآدم ولا صفةٍ ، لأنَّ الصلة للمبهمات والصفة للنكرات ولكنه خبرٌ مستأنفٌ على جهةِ التفسير لحالِ آدَمَ عليه السلام " قال : " قال الزجاج " وهذا كما تقولُ في الكلام : " مَثَلُك كمثلِ زيد " تريد أنك تُشْبهه في فِعْلٍ ثم تخبرُ بقصة زيد ، فتقول : فعل كذا وكذا " .

وقوله : { كُن فَيَكُونُ } اختلفوا في المقولِ له : كن ، فالأكثرون على أنه آدم عليه السلام ، وعلى هذا يقعُ الإِشكال في لفظ الآية ، لأنه إنما يقول له : " كن " قبل أن يخلقَه لا بعده ، وههنا يقولُ : " خَلَقه " ثم قال له : كن ، والجواب : أنَّ الله تعالى أخبرَنا أولاً أنه خَلَقَ آدمَ مِنْ غيرِ ذَكَرٍ ولا أنثى ، ثم ابتدأَ خبراً آخرَ ، أرادَ أَنْ يُخْبِرَنا به فقال : إني مخبرُكم أيضاً بعد خبري الأول أني قلت له : " كن " فكان ، فجاء بثم لمعنى الخبرِ الذي تقدَّم والخبر الذي تأخر في الذكر ، لأنَّ الخَلْقَ تقدَّم على قولِه " كن " ، وهذا كما تقول : " أُخْبِرُك أني أُعطيك اليوم ألفاً ، ثم أُخبرك أني أعطتيك أمسِ قبلَه ألفاً " فأمس متقدِّمَ على اليوم ، وإنما جاء بثم لأنَّ خبرَ اليوم متقدِّمٌ خبرَ أمسِ ، وجاءَ خبرُ أمس بعد مُضِيِّ خبر اليوم ، ومثله قوله : { خَلَقَكُمْ مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا } [ الزمر : 6 ] وقد خَلَقها بعد خَلْق زوجها ، ولكن هذا على الخبر دون الخَلْق ، لأنَّ التأويلَ : أخبركم أني قد خلقتكم من نفس واحدة ؛ لأن حواء قد خُلقت من ضلعه ، ثم أُخبركم أني خَلَقت زوجها منها ، ومثلُ هذا مِمَّا جاء في الشعر قوله :

إنَّ مَنْ ساد ثم ساد أبوه *** ثم قد سادَ قبل ذلك جَدُّهُ

ومعلومٌ أنَّ الأبَ متقدِّمٌ له والجَدَّ متقدمٌ للأب ، فالترتيبُ يعودُ إلى الخبر لا إلى الوجودِ ، ويجوزُ أَنْ يكونَ المرادُ أنه خلقه قالباً من ترابٍ ثم قال له : كُنْ بَشَراً فيصِحُّ النَّظْمُ . وقال بعضُهم : المقولُ له كن : عيسى ، ولا إشكالَ على هذا .

وقوله : { فَيَكُونُ } يجوز أَنْ يكونَ على بابِه مِنْ كونِه مستقبلاً ، والمعنى : فيكونُ كما يأمرُ الله فيكونُ حكايةً للحال التي يكونُ عليها آدم ، ويجوز أن يكون " فيكونُ " بمعنى " فكان " ، وعلى هذا أكثرُ المفسرين والنحويين ، وبهذا فَسَّره ابنُ عباس رضي الله عنه .

والمَثَلُ هنا : منهم مَنْ فَسَّره بمعنى الحال والشأن ، قال الزمخشري : " أي : إنَّ شأنَ عيسى وحالَه الغريبة كشأنِ آدم " ، وعلى هذا التفسير فالكافُ على بابها من كونِها حرفَ تشبيه ، وفَسَّر بعضُهم المَثَلَ بمعنى الصفة ، قال ابن عطية : " وهذا عندي خطأ وضعفٌ في فَهْمِ الكلام ، وإنما المعنى : أن المثلَ الذي تتصوَّرُه النفوسُ والعقولُ مِنْ عيسى هو كالمُتَصَوَّرِ من آدم ، إذ الناسُ كلُّهم مُجْمِعُون [ على ] أنَّ اللهَ خَلَقَه مِنْ تراب من غيرِ فحلٍ ، وكذلك قولُه : { مَّثَلُ الْجَنَّة } [ الرعد : 35 ] عبارةٌ عن المتصوَّر منها ، والكافُ في " كمثل " اسمٌ على ما ذكرناه من المعنى " . قال الشيخ : " ولا يَظْهَرُ لي فَرْقٌ بين كلامِه هذا وبين مَنْ جَعَلَ المَثَلَ بمعنى الشأن والحال وبمعنى الصفة " . قلت : قد تقدَّم في أولِ البقرة أنَّ المَثَل قد يُعَبَّر به عن الصفة وقد لا يُعَبَّر به عنها ، فدلَّ ذلك على تغايُرهما ، وقد مَرَّ تفسيرُه وعبارةُ الناسِ فيه ، ويَدُلُّ على ذلك ما قاله صاحب " ريّ الظمآن " عن الفارسي قال : " قيل : المَثَلُ بمعنى الصفة ، وقولك : صفةُ عيسى كصفة آدم كلامٌ مُطَّرد ، على هذا جُلُّ اللغويين والمفسرين ، وخالف أبو علي الفارِسي الجميعَ ، وقال : المَثَلُ بمعنى الصفة لا يُمْكِنُ تصحيحُه في اللغة ، إنما المَثَلُ التشبيهُ ، على هذا تدورُ تصاريفُ الكلمة ، ولا معنى للوصفيةِ في التشابهِ ، ومعنى المثل في كلامِهم أنها كلمةٌ يرسلُها قائلُها لحكمةٍ يُشَبِّه بها الأمورَ ويقابِلُ بها الأحوالَ " قلت : فقد فَرَّق بين لفظِ المثل في الاصطلاحِ وبين الصفة .

وقال بعضُهم : إنَّ الكافَ زائدةٌ ، وبعضُهم قال : إنَّ " مَثَلاً " زائد . فقد تحصَّل في الكاف ثلاثة أقوال ، أظهرها : أنها على بابها من الحرفية وعدمِ الزيادة ، وقد تقدَّم تحقيقه . وقال الزمخشري : " فإن قلت : كيف شُبِّه به وقد وُجِد هو بغير أب ، ووُجِد آدمُ بغيرِ أب ولا أم ؟ قلت : هو مثلُه في أحد الطرفين ، فلا يَمْنَعُ اختصاصُه دونَه بالطرفِ الآخرِ مِنْ تشبيهِه به ، لأنَّ المماثلَة مشاركةٌ في بعضِ الأوصافِ ، ولأنه شُبِّه به في أنه وُجِد وجوداً خارجاً عن العادةِ المستمرةِ وهما في ذلك نظيران ، ولأنَّ الوجود من غير أب وأم أغربُ وأخرقُ للعادةِ من الوجود بغير أب ، فَشَبَّه الغريبَ بالأغرب ليكون أقطعَ للخصمِ وأَحْسَمَ لمادة شُبْهته . وعن بعضِ العلماء أنه أُسِر بالروم فقال لهم : لِمَ تعبدون عيسى ؟ قالوا : لأنه لا أب له ، قال : فآدم أولى لأنه لا أبوين له ، قالوا : فإنه كان يحيي الموتى ، قال : فحزقيل أَوْلى لأن عيسى أحيا أربعة نفر ، وحزقيل أحيا ثمانية آلاف . قالوا : كان يبرىء الأكمة والأبرص . قال : فجرجيس أولى لأنه طُبخ وأُحْرِقَ ثم خَرَج سالماً " .

قوله : { مِن تُرَابٍ } فيه وجهان ، أظهرُهما :

أنه متعلِّقٌ ب " خلقه " أي : ابتداءُ خلقه من هذا الجنس ،

والثاني : أنه حالٌ من مفعول " خلقه " تقديره : خَلَقه كائناً مِنْ تراب ، وهذا لا يساعِدُه المعنى .