الدر المصون في علم الكتاب المكنون للسمين الحلبي - السمين الحلبي  
{وَيُكَلِّمُ ٱلنَّاسَ فِي ٱلۡمَهۡدِ وَكَهۡلٗا وَمِنَ ٱلصَّـٰلِحِينَ} (46)

قولُه : { وَيُكَلِّمُ } وقوله : { مِنَ الصَّالِحِينَ } فهذه أربعةُ أحوالٍ انتصبَتْ عن قوله " بكلمة " ، وإنما ذَكَّره الحالَ حَمْلاً على المعنى ، إذ المرادُ بها الولَدُ والمُكَوَّن ، كما ذكَّر الضميرَ في " اسمهُ " ، فالحالُ الأولى جِيء بها على الأصلِ اسماً صريحاً ، والباقيةُ في تأويِلِهِ : فالثانيةُ جار ومجرور ، وأُتِيَ بها هكذا لِوُقوعِها فاصلةً في الكلامِ ، ولو جِيءَ بها اسماً صريحاً لفاتَ مناسبةٌ الفواصلِ ، والثالثة جملةٌ فعليةٌ ، وعطفُ الفعلِ على الاسمِ لتأويله به وهو كقولِهِ تعالى : { أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ }[ الملك : 19 ] أي : وقابضاتٍ ، ومثلُه في عَطْفِ الاسمِ على الفعلِ لأنه في تأويلِهِ قولُ النابغة :

فأَلْفَيْتُه يوماً يُبيرُ عدوَّه *** وبَحْرَ عطاءٍ يَسْتَخِفُّ المعابِرا

ويقرب منه :

باتَ يُغَشِّيها بعَضْبٍ باتِرٍ *** يَقْصِدُ في أَسْوُقِها وجائِرُ

إذ المعنى : مبيراً عدوَّه ، وقاصدٍ ، وجاءَ بالثالثةِ فعليةً لأنَّها في رتبتِها ، إذ الحالُ وصفٌ في المعنى ، وقد تقدَّم أنه إذا اجتمع صفاتٌ مختلفة في الصراحةِ والتأويلِ قُدِّم الاسمُ ثم الظرفُ أو عديلُه ثم الجملةُ ، فكذا فَعَل هنا ، قَدَّم الاسمَ وهو " وجيهاً " ثم الجارَّ والمجرورَ ثم الفعلَ ، وأتى به مضارِعاً لدلالتِهِ على التجدُّد وقتاً فوقتاً ، بخلافِ الوجاهةِ فإنَّ المرادَ ثبوتُها واستقرارُها والاسمُ مكتفِّلٌ بذلك ، والجارُّ قريبٌ من المفردِ فلذلك ثَنَّى به إذ المقصودُ ثبوتُ تقريبه . والتضعيفُ في " المقرَّبين " للتعديةِ لا للمبالغةِ لِمَا تقدَّم من أنَّ التضعيفَ للمبالغةِ لا يُكْسِبُ الفعلَ مفعولاً ، وهذا قد أَكْسَبَهُ مفعولاً كما ترى بخلافِ : " قَطَّعْتُ الأثوابَ " فإنَّ التعدِّيَ حاصلٌ قبلَ ذلك ، وجيء بالرابعةِ بقوله { مِنَ الصَّالِحِينَ } مراعاةً للفاصلةِ كما تقدَّم في

" المقرَّبين " والمعنى : أنَّ الله يُبَشِّركِ بهذه الكلمةِ موصوفةً بهذه الصفاتِ الجميلةِ .

وَمَنَع أبو البقاء أن تكونَ أحوالاً من المسيح أو من عيسى أو من ابن مريم ، قال : " لأنها أخبارٌ والعاملُ فيها الابتداءُ أو المبتدأُ أو هما ، وليس شيءٌ من ذلك يَعْمَلُ في الحال " وَمَنَع أيضاً كونَها حالاً من الهاء في " اسمُه " قال : " للفصلِ الواقِعِ بينهما ، ولعدمِ العاملِ في الحال " قلت : ومذهبُهُ أيضاً أنَّ الحالَ لا تجيءُ من المضافِ إليه وهو مرادُهُ بقولِهِ : " ولعدمِ العاملِ " وجاءَتِ الحالُ من النكرةِ لتخصُّصِها بالصفةِ بعدَها . وظاهرُ كلامِ الواحدي فيما نقلَهُ عن الفراء ، أنه يجوزُ أن تكونَ أحوالاً من عيسى فإنَّه قال : " والفراء يُسَمِّي هذا قطعاً كأنه قال : عيسى ابن مريم الوجيهَ ، قَطَعَ منه التعريفَ " فظاهِرُ هذا يُؤْذِنُ بأنَّ " وجيهاً " من صفة عيسى في الأصل فَقُطِعَ عنه ، والحالُ وصفٌ في المعنى .

قوله : { فِي الدُّنْيَا } متعلق بوجيهاً ، لِما فيه من معنى الفعل . والوجيه : ذو الجاه وهو القوة والمَنَعَةُ والشرف ، يقال : وَجُه الرجلُ يَوْجُه وَجَاهَةً ، واشتقاقُهُ من الوجه لأنه أشرفُ الأعضاءِ ، والجاه مقلوبٌ منه فوزنُه عَفَل .

وقوله تعالى : { فِي الْمَهْدِ } : يجوزُ فيه وجهان :

أحدهما : وهو الظاهرُ أنه متعلِّقٌ بمحذوفٍ ، على أنه حالٌ من الضميرِ في " يُكَلِّم " ِأي : يكلِّمُهم صغيراً وكهلاً ، فَكَهْلاً على هذا نَسَقٌ على هذه الحالِ المؤولةِ .

والثاني : أنه ظرفٌ للتكليم كسائرِ الفَضَلات ، فَكَهْلاً على هذا نسق على وجيهاً فعلى هذا يكون خمسةُ أَحوالٍ .

والكَهْلُ : مَنْ بَلَغَ سنَّ الكهولةِ وأولُها ثلاثون ، وقيل : اثنان ، وقيل : ثلاثٌ وثلاثون . وقيل : أربعون ، وآخرُها ستون ، ثم يدخُلُ في سن الشيخوخة واشتقاقه مِنْ اكْتَهَلَ النبات : إذا علا وَأَرْبَعَ ، ومنه : الكاهلُ ، وقال صاحب المُجْمل : " اكتهل الرجلُ : وخَطه الشيب من قولهم : اكْتَهلت الروضةُ إذا عَمَّها النُّوْر ، والمرأةُ : كَهْلَة " . وقال الراغب : " والكَهْلُ مَنْ وَخَطَه الشيبُ ، واكتهلَ النبات : إذا شارف اليَبُوسة مشارَفَةَ الكَهْلِ الشيبَ ، وأنشد قولَ الأعشى في وصفِ روضة :

يُضاحِكُ الشمسَ منها كوكبٌ شَرِقٌ *** مُؤَزَّرٌ بعميمِ النبتِ مُكْتَهِلُ

وقد تقدَّم الكلامُ في تنقُّلِ أحوالِ الوَلَد من لَدُنْ كونِهِ في البطن إلى شيخوختِهِ عند ذِكْرِ " غُلام " فلا نُعِيدُه .

وقال بعضُهم : " ما دَامَ في بَطْنِ أمه فهو جنينٌ ، فإذا وُلِدَ فَولِيد ، فإذا لم يَسْتَتِمَّ الأسبوع فصديعٌ ، وما دام يَرْضَعُ فَهُوَ رضيع ، ثم هو فطيم عند الفِطام ، وإذا لم يَرْضَع فَمَحوش ، فإذا دَبَّ فدارج ، فإذا سقطت رواضعُه فَثَغُور ، فإذا نَبَتَتْ بعد إسقاطِهِ فَمَثْغور ومَتْغور ، فإذا جاوَزَ العشرَ فمترعرعٌ وناشِىء ، فإذا لم يبلُغ الحُلُمَ فيافعٌ ومراهق ، فإذا احتلَمَ فَحَزُوُّرٌ ، والغلامُ يُطْلَقُ عليه في جميعِ أحوالِهِ بعد الولادة ، فإذا اخضرَّ شاربُهُ وسالَ عِذارُهُ فباقِلٌ ، فإذا صارَ ذا لحيةٍ ففَتِيٌّ وشارِخٌ ، فإذا مَا كَمَلَتْ لحيته فمتَجَمِّع ، ثم هو من الثلاثين إلى الأربعين شاب ، ومن الأربعين إلى ستين كهل " ولأهلِ اللغةِ عباراتٌ مختلفة في ذلك ، هذا أشهرُها .

فإنْ قيل : [ المُسْتَغرَبُ إنما هو كلامُ الطفلِ في ] المهدِ ، وأمَّا كلامُ الكهولِ فغيرُ مُسْتَغرَبٍ ، فالجوابُ أنهم قالوا : لم يتكلم صبيٌّ في المَهْدِ وعاش ، أو لم يتكلَّمْ أصلاً بل يبقى أخرسَ أبداً ، فبشَّر اللهُ مريم بأنَّ هذا يتكلم طفلاً ويعيشُ ويتكلم في حالِ كهولته ، ففيه تطمينٌ لخاطِرها بما يخالِفُ العادةَ . وقال الزمخشَري : " بمعنى يُكلِّمُ الناسَ طفلاً وكهلاً ، ومعناهُ يُكَلِّمُ الناسَ في هاتين الحالتين كلامَ الأنبياءِ من غير تفاوتٍ بين الحالتين : حالةِ الطفولة وحالةِ الكُهولة " .

والمَهْدُ : ما يُهَيَّأُ للصبي أَنْ يُرَبَّى فيه ، مِنْ مَهَّدْتُ له المكانَ أي : وَطَّأْته وَلَيَّنْتُه له ، وفيه احتمالان ، أحدُهما : أن يكونَ أصلُه المصدرَ ، فَسُمِّيَ به المكانُ ، وأن يكونَ بنفسِه اسمَ مكانٍ غيرَ مصدرٍ ، وقد قُرِيءَ مَهْداً ومِهاداً في طه كما سيأتي .