الدر المصون في علم الكتاب المكنون للسمين الحلبي - السمين الحلبي  
{إِذۡ قَالَ ٱللَّهُ يَٰعِيسَىٰٓ إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ وَجَاعِلُ ٱلَّذِينَ ٱتَّبَعُوكَ فَوۡقَ ٱلَّذِينَ كَفَرُوٓاْ إِلَىٰ يَوۡمِ ٱلۡقِيَٰمَةِۖ ثُمَّ إِلَيَّ مَرۡجِعُكُمۡ فَأَحۡكُمُ بَيۡنَكُمۡ فِيمَا كُنتُمۡ فِيهِ تَخۡتَلِفُونَ} (55)

قوله تعالى : { إِذْ قَالَ اللَّهُ } : في ناصبهِ ثلاثةُ أوجهٍ :

أحدُها : قوله : " وَمَكَرَ الله " أي وَمَكَر اللهُ بهم في هذا الوَقتِ .

الثاني : أنه " خير الماكرين " .

الثالث : اذكر مقدراً ، فيكون مفعولاً به كما تقدَّم تقريرُه غيرَ مرةٍ .

قوله : { إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ } فيه وجهان ، أظهرُهما :

أنَّ الكلامَ على حالهِ من غيرِ ادِّعاءِ تقديمٍ وتأخيرٍ فيه ، بمعنى : إني مستوفي أجلك ومؤخِّرُك وعاصِمُك مِنْ أَنْ يقتُلَكَ الكفار إلى أن تموتَ حَتْفَ أنفِكَ من غيرِ أَنْ تُقْتَلَ بأيدي الكفارِ ورافعُكَ إلى سمائي .

والثاني : أنَّ في الكلام تقديماً وتأخيراً ، والأصلُ : رافُعك إليّ ومتوفيك لأنه رُفِع إلى السماء ثم يُتَوَفَّى بعد ذلك ، والواوُ للجمعِ فلا فَرْقَ بين التقديم والتأخيرِ ، قاله أبو البقاء وبدأ به ، ولا حاجةَ إلى ذلك مع إمكانِ إقرارِ كلِّ واحدٍ في مكانِهِ بما تقدَّم من المعنى ، إلاَّ أنَّ أبا البقاءِ حَمَلَ التوفِّيَ على الموتِ ، وذلك إنما هو بعدَ رَفْعِهِ ونزولِهِ إلى الأرض وحكمهِ بشريعةِ محمدٍ صلى الله عليه وسلم .

وفي قوله { وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ } [ آل عمران : 54 ] إيقاعُ الظاهرِ موقعَ المضمرِ ، إذ الأصلُ : ومكرُوا ومكرَ اللهُ وهو خير الماكرين .

قوله : { وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ } فيه قولان ، أظهرُهُما :

أنه خطابٌ لعيسى عليه السلام ،

والثاني : أنه خطابٌ لنبينا صلى الله عليه وسلم ، فيكونُ الوقفُ على قوله : { مِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ } تاماً ، والابتداءُ بما بعده ، وجاز هذا لدلالةِ الحالِ عليه .

و { فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُواْ } ثاني مفعولَيْ جاعل لأنه بمعنى مُصَيِّر فقط .

و { إِلَى يَوْمِ } متعلِّقٌ بالجَعْل ، يعني أنَّ هذا الجَعْلَ مستمرٌّ إلى ذلك اليوم ، ويجوزُ أَنْ يتعلَّقَ بالاستقرار المقدَّرِ في " فوق " أي : جاعِلُهُم قاهرين لهم إلى يوم القيامة ، يعني أنهم ظاهرون على اليهودِ وغيرِهم من الكفارِ بالغَلَبَةِ في الدنيا ، فأمَّا يوْمُ القيامةِ فيحكُمُ اللهُ بينهم فيُدخِل الطائعَ الجنةَ والعاصيَ النارَ ، وليس المعنى على انقطاعِ ارتفاعِ المؤمنين على الكافرين بعد الدنيا وانقضائِها ، لأنَّ لهم استعلاءً آخرَ غيرَ هذا الاستعلاء . وقال الشيخ : " والظاهرُ أنَّ " إلى " تتعلقُ بمحذوفٍ ، وهو العاملُ في " فوق " ، وهو المفعولُ الثاني لجاعل ، إذ " جاعل " هنا مُصَيِّر ، فالمعنى كائنين فوقَهم إلى يوم القيامة ، وهذا على أنَّ الفوقيةَ مجازٌ ، وأمَّا إن كانت الفوقيةُ حقيقيةً وهي الفوقيةُ في الجنة فلا تتعلَّق " إلى " بذلك المحذوفِ بل بما تقدَّم من " متوفِّيك " أو من " رافعك " أو من " مُطَهِّرك " إذ يَصِحُّ تعلُّقه بكلِّ واحدٍ منها ، أمَّا تعلُّقُه برافِعُك ، أو بمُطَهِّرُك فظاهرٌ ، وأمَّا بمتوَفِّيك فعلى بعضِ الأقوال " يعني ببعض الأقوال أنَّ التوفِّي يُراد به قابِضُكَ من الأرضِ من غيرِ موتٍ ، وهو قولُ جماعةٍ كالحسن وابنِ زيد وابن جريج وغيرِهم ، او يرادُ به ما ذَكَرَهُ الزمخشري ، وهو مستوفي أجلك ، ومعناه : إني عاصمُك من أن يقتلَك الكفارُ ومؤخِّرُك إلى أَجَلٍ كتبتُه لك ، ومميتُك حَتْفَ أنفِكَ لا قتلاً بأيدي الكفار ، وأمَّا على قولِ مَنْ يقول : إنه تُوُفِّي حقيقةً فلا يُتَصَوَّرُ تَعلُّقُه به لأن القائل بذلك لم يقل باستمرار الوفاة إلى يوم القيامة بل قائل يقول : إنه تُوُفِّي ثلاث ساعات ، وآخرُ يقول : توفي سَبع ساعات بقدر ما رُفع إلى سمائه حتى لا يلحقَه خوفٌ ولا ذُعْر في اليقظة ، وعلى هذا الذي ذكره الشيخ يجوز أن تكون المسألة من الإِعمال ، ويكون قد تنازع في هذا الجارِّ ثلاثةُ عوامل ، وإذا ضَمَمْنا إليها كونَ الفوقية مجازاً تنازع فيه أربعةُ عواملَ ، والظاهرُ أنه متعلِّقٌ بجاعل .

وقد تقدَّم أن أبا عمرو يُسَكِّنُ ميم " أَحْكُمُ " ونحوِه قبلَ الباء .