الدر المصون في علم الكتاب المكنون للسمين الحلبي - السمين الحلبي  
{فَمَنۡ حَآجَّكَ فِيهِ مِنۢ بَعۡدِ مَا جَآءَكَ مِنَ ٱلۡعِلۡمِ فَقُلۡ تَعَالَوۡاْ نَدۡعُ أَبۡنَآءَنَا وَأَبۡنَآءَكُمۡ وَنِسَآءَنَا وَنِسَآءَكُمۡ وَأَنفُسَنَا وَأَنفُسَكُمۡ ثُمَّ نَبۡتَهِلۡ فَنَجۡعَل لَّعۡنَتَ ٱللَّهِ عَلَى ٱلۡكَٰذِبِينَ} (61)

قوله تعالى : { فَمَنْ حَآجَّكَ } : يجوز في " مَنْ " وجهان :

أحدهما : أن تكونَ شرطيةً وهو الظاهر أي : إنْ حاجَّك أحدٌ فقلْ له : كيتَ وكيتَ ،

ويجوز أَنْ تكونَ موصولةً بمعنى الذي ، وإنما دَخَلَتِ الفاءُ في الخبر لتضمُّنه معنى الشرط .

والمُحاجَّة مُفاعلة وهي من اثنين ، وكان الأمر كذلك .

قوله : " فيه " متعلق بحاجَّك أي : جادَلك في شأنه ، والهاء فيه وجهان ، أظهرهما :

عَوْدُها على عيسى عليه السلام .

والثاني عَوْدُها على الحق ، و قد يتأيَّد هذا بأنه أقربُ مذكورٍ ، إلاَّ أنَّ الأول أظهرُ لأن عيسى هو المُحَدَّث عنه وهو صاحب القصة .

قوله : { مِن بَعْدِ مَا جَآءَكَ } متعلِّقٌ بحاجِّك أيضاً ، و " ما " يجوز أن تكون موصولة اسميةً ، ففاعلُ " جاءك " ضميرٌ يعودُ عليها أي : من بعد الذي جاءك هو ، و " من العلم " حالٌ من فاعل " جاءك " ، ويجوز أن تكونَ موصولةً حرفية ، وحينئذُ يقال : يلزم من ذلك خُلُوُّ الفعل من الفاعل ، أو عَوْدُ الضمير على الحرف ، لأن " جاءك " لا بُدَّ له من فاعل ، وليس معنا شيءٌ يَصْلُحُ عَودُه عليه إلا " ما " وهي حرفيةٌ . والجوابُ : أنه يجوزُ أن يكون الفاعلُ قولَه " من العلم " و " من " مزيدةٌ ، أي بعد ما جاءك العلم أي : بعد مجيء العلم ، وهذا إنما يتخرَّج على قول الأخفش لأنه لا يَشْترط في زيادتها شيئاً . و " مِنْ " في " من العلم " يُحْتمل أن تكونَ تبعيضيَّةً وهو الظاهرُ وأَنْ تكونَ لبيان الجنس .

قوله : { تَعَالَوْاْ } العامةُ على فتح اللام لأنه أمرق من تعالَى يَتَعالى ، كترامى يترامى ، وأصلُ ألفِه ياءٌ ، وأصلُ هذه الياء واو ، وذلك أنه مشتقٌ من العلوِّ وهو الارتقاعِ كما سيأتي بيانُه في الاشتقاق ، والواوُ متى وقَعَتْ رابعةً فصاعداً قُلِبَتْ ياءً فصار تعالَوَ : تعالَيَ ، فتحرَّك حرفُ العلة وانفتح ما قبلَه فَقُلِب ألفاً فصار : تعالَى كَترامى وتغازَى ، فإذا أَمَرْتَ منه الواحدَ قلت : تعالَ يا زيدُ ، بحَذْفِ الألف ، وكذا إذا أَمَرْتَ الجمعَ المذكَّر قلت : تعالَوا ؛ لأنك لمَّا حَذَفْتَ الألف لأجلِ الأمرِ أبقَيْتَ الفتحَة مُشْعرةً بها . وإن شئت قلت : الأصل : تعالَيُوا ، وأصلُ هذه الياءِ واوٌ كما تقدَّم ، ثم استُثْقِلت الضَّمةُ على الياءِ فَحُذِفَتْ ضمتُها فالتقى ساكنان ، فحُذِف أولُهما وهو الياء لالتقاء الساكنين وتُرِكت الفتحةُ على حالِها . وإنْ شئت قلت : لَمَّا كان الأصلُ : تعالَيُوا تحرَّك حرف العلة وانفتح ما قبله وهو الياء فَقُلِب ألفاً فالتقى ساكنان ، فحُذِف أولُهما وهو الألف وبقيت الفتحة دالة عليه .

والفرقُ بين هذا وبين الوجه الأول أن الألف في الوجه الأول حُذِفَت لأجل الأمر وإن لم تتصل به واو ضمير ، وفي هذا حُذِفت لالتقائها مع واو الضمير .

وكذلك إذا أَمَرْتَ الواحدة تقول لها " تعالَيْ " ، فهذه الياء هي ياء الفاعلة من جملة الضمائر ، والتصريفُ كما تقدم ، إلا أنك تقول هنا : الكسرة على الياءَ بَدَلٌ الضمة هناك ، وأمَّا إذا أَمَرْتَ المثنى فإن الياء تثبت فتقول : يا زيدان تعالَيا ، ويا هندان تعاليا أيضاً ، يَسْتوي فيه المذكران والمؤنثان ، وكذلك أمرُ جماعة الإِناث تَثْبُت فيه الياء تقول : يا نسوة تعالَيْن ، وقال تعالى : { فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ } [ الأحزاب : 28 ] إذ لا مقتضى للحذف ولا للقلبِ ، وهو ظاهرٌ بما تمهَّد من القواعد .

وقرأ الحسن وأبو السمَّال وأبو واقد : " تعالُوا " بضم اللام ، ووجَّهوها على أن الأصل : تعالَيُوا كما تقدم ، فاستثقلت الضمة على الياء فنُقِلت إلى اللام بعد سَلْب حركتِها فبقي : تعالُوا بضم اللام . وقال الزمخشري في سورة النساء : " وعلى هذه القراءة قال الحمداني :

1312 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . *** تعالِي أقاسمْك الهمومَ تعالِي

بكسرِ اللام " ، وقد عابَ بعضُ الناسِ عليه في استشهاده بشعر هذا المُولَّدِ المتأخر ، وليس بعيبٍ فإنه ذَكَرَه استئناساً وهذا كما تقدَّم في أولِ البقرة عندما أَنْشَدَ لحبيب :

هما أَظْلَمَا حالَيَّ ثَمَّتَ أَجْلَيا *** *** . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

واعتذر هو عن ذلك بما قَدَّمْتُه عنه فكيف يُعابُ عليه شيءٌ عَرَفَه ونَبَّه عليه واعتَذَر عنه ؟

والذي يَظْهَرُ في توجيهِ هذه القراءةُ أنهم تناسَوا الحرفَ المحذوف حتى كأنهم تَوَهَّمُوا أنَّ الكلمة بُنِيَتْ على ذلك ، وأنَّ اللامَ هي الآخِرُ في الحقيقة فلذلكَ عُومِلَتْ معامَلَة الآخِر حقيقةً فَضُمَّت قبلَ واو الضميرِ وكُسِرَتْ قبل يائه كما ترى ، ويَدُلُّ على ما قلتُه أنهم قالوا في " لَمْ أُبَلَهْ " : إنََّ الأصلَ : " أبالي " لأنه مضارع بالَى ، فلمَّا دخل الجازمُ حَذَفوا له حرفَ العلةِ على القاعدة ثم تناسَوا ذلك الحرفَ فَسَكَّنُوا للجازمِ اللامَ لأنها كالأخيرِ حقيقةً ، فلما سكنت اللام التقى ساكنان : هي والألف قبلَها فَحُذِفَت الألف لالتقاء الساكنين ، وهذا التعليلُ أَوْلَى لأنه يَعُمُّ هذه القراءةَ والبيت المذكور ، وعلى مقتضى تعليله هو يقال : الأصل : تعالَيِي ، فاستُثْقِلَت الكسرةُ على الياء ، فَنُقِلَت إلى اللام بعد سَلْبِهَا حرَكَتَها ، ثم حُذِفَتِ الياءُ لالتقاء الساكنين .

وتعالَ : فعلٌ صريحٌ وليس باسمِ فعلٍ لاتصال الضمائر المرفوعة البارزة به . قيل : وأصلُهُ طَلَبُ الإِقبال من مكان مرتفع تفاؤلاً بذلك ، وإدناءً للمدعوّ ، لأنه من العلو والرفعة ، ثم تُوُسِّع فيه فاستُعْمِلَ في مجرد طلب المجيء ، حتى يُقالُ ذلك لمن يريدُ إهانَته كقولِك للعدوّ : تعالَ ، ولمَنْ لا يَعْقِل كالبهائِمِ ونحوِها ، وقيل : هو الدعاءُ لمكانٍ مرتفعٍ ، ثم تُوُسِّع فيه حتى استُعْمِلَ في طَلَبِ الإِقبالِ إلى كل مكانٍ حتى المنخفضِ .

و { نَدْعُ } جزمٌ على جوابِ الأمرِ إذ يَصِحُّ أَنْ يقالَ : إنْ تتعالَوا نَدْعُ .

قوله : { ثُمَّ نَبْتَهِلْ } أتى بثم هنا تنبيهاً لهم على خطابِهم في مباهلته ، كأنه يقولُ لهم : لا تعجلوا وَتَأنَّوا لعله أَنْ يظهر لكم الحق ، فلذلك أتى بحرف التراخي .

والابتهال : افتعالٌ من البُهْلَة ، والبهلة بفتح الباء وضمها ، وهي اللعنة ، قال الزمخشري : " ثم نتباهل بأن نقول : لعنةُ الله على الكاذب منا ومنكم ، والبهلة بالفتح والضم : اللعنة ، وبَهَله الله : لعنه الله وأبعده من رحمته ، من قولك : أبهله إذا أهمله ، وناقةٌ باهل : لا صِرار عليها ، وأصل الابتهال هذا ثم استُعمل في كل دعاء يُجْتهد فيه وإن لم يكن التعاناً " قلت : ما أحسنَ ما جُعِلَ الافتعال هنا بمعنى التفاعل ، لأن المعنى لا يَجيء إلا على ذلك ، وتفاعَلَ وافْتَعَلَ أخَوان في مواضع نحو : اجتَوَروا وتجاوروا ، واشْتَوروا وتشاوروا ، ولذلك صَحَّت واو اجتَوَر واشْتَوَر ، وقوله : " وإن لم يكن التعاناً " يعني أنه اشتهر في اللغة : فلان يَبْتَهِل إلى الله في قضاءِ حاجته ، ويبتهل في كشف كربته .

وقال الراغب : " أصل البَهْل : كونُ الشيءِ غيرَ مراعَ . والباهل : البعيرُ المُخَلَّى عن قَيْدِه أو عن سمةٍ ، أو المُخَلَّى ضَرْعُها عن صِرار " ، وأنشد لأمراة : " أتيتُكَ باهِلاً غيرَ ذاتِ صِرار " ***

وأَبْهَلْتُ فلاناً : خَلَّيْتُه وإرادتَه ، تشبيهاً بالبعير الباهل ، و البَهْل والابتِهال في الدعاء : الاسترسالُ فيه والتضرع نحو : " ثم نبتهلْ فنجعلْ " ، ومنْ فَسَّر الابتهالَ باللَّعْن فلأجلِ أنَّ الاسترسالَ في هذا المكانِ لأجل اللعنِ ، قال الشاعر :

1314 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . *** نَظَرَ الدهرُ إليهم فابْتَهَلْ

قلت : هذا الشطرُ للبيد ، وأول البيت :

مِنْ قُرومٍ سادةٍ في قومِهم *** نَظَرَ الدهرُ إليهمْ فابْتَهَلْ

وظاهِرُ هذا أنَّ الابتهالَ عامٌّ في كلِّ دعاءٍ لَعناً كانَ أو غيرَه ، ثم خُصَّ في هذه الآيةِ بِاللَّعْنِ .

وظاهِرُ عبارةِ الزمخشري أنَّ أصلَهُ خصوصيتُه باللَّعْنِ ، ثم تُجُوِّزَ فيه فاستُعْمِلَ في اجتهادٍ في دعاءٍ لَعْناً كانَ أو غيرَه ، والظاهِرُ من أقوالِ اللغويين ما ذكرَهُ الراغِبُ . وقال أبو بكر بن دريد في مقصورِته :

لم أَرَ كالمُزْنِ سَواماً بُهَّلا *** تَحْسَبُهَا مَرْعِيَّةً وَهِي سُدى

بُهَّلاً : ج باهِلة أي : مهملة ، وفاعِلة يُجْمع على فُعَّل نحو : ضُرَّب ، والسُّدى : المهمل أيضاً .

وقوله : { فَنَجْعَل } هي المتعديةُ لاثنين بمعنى : نُصَيِّر ، و " على الكاذبين " هو المفعول الثاني .