الدر المصون في علم الكتاب المكنون للسمين الحلبي - السمين الحلبي  
{يَوۡمَ تَمُورُ ٱلسَّمَآءُ مَوۡرٗا} (9)

قوله : { يَوْمَ تَمُورُ } : يجوزُ أَنْ يكونَ العاملُ فيه " واقعٌ " أي : يقعُ في ذلك اليومِ ، وعلى هذا فتكونُ الجملةُ المنفيةُ معترضةً بين العاملِ ومعمولِه . ويجوزُ أَنْ يكونَ العاملُ فيه " دافعٌ " قاله الحوفي ، وأبو البقاء ومنعه مكي . قال الشيخ : " ولم يذكرْ دليلَ المنع " وقلت : قد ذَكَرَ دليلَ المنع في " الكشف " إلاَّ أنه ربما يكونُ غَلَطاً عليه ، فإنه وهمٌ وانا أذكُر لك عبارتَه . قال رحمه الله : " العامل فيه " واقعٌ " أي : إنَّ عذاب ربك لَواقعٌ في يومِ تمورُ السماءُ مَوْراً . ولا يَعْمل فيه " دافعٌ " لأنَّ المنفيَّ لا يعمل فيما قبل النافي . لا تقول : " طعامَك ما زيدٌ آكلاً " ، رفعْتَ " آكلاً " أو نَصَبْتَه أو أَدْخَلْتَ عليه الباءَ . فإن رَفَعْتَ الطعامَ بالابتداءِ وأوقَعْتَ " آكلاً " على هاءٍ جازَ ، وما بعد الطعام خبرٌ " انتهى . وهذا كلامٌ صحيح في نفسِه ، إلاَّ أنه ليس في الآية شيءٌ من ذلك ؛ لأنَّ العاملَ وهو " دافعٌ " والمعمولُ وهو " يومَ " ، كلاهما بعد النافي وفي حَيِّزه . وقوله : " وأوقَعْتَ " آكلاً " على هاء " أي على ضميرٍ يعود على الطعامِ ، فتقول : طعامَك ما زيدٌ آكلَه .

وقد يقال : إنَّ وجهَ المنعِ مِنْ ذلك خَوْفُ الوهَمِ : أنه يُفْهَمُ أن أحداً يدفعُ العذاب في غيرِ ذلك اليومِ ، والفرضُ أنَّ عذابَ اللَّهِ لا يُدفع في كل وقت . وهذا أمرٌ مناسِبٌ قد ذُكِر مثلَه كثيرٌ ؛ ولذلك مَنَعَ بعضُهم أن ينتصِبَ { يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ } بقولِه : { وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } [ آل عمران : 29-30 ] لئلا يُفْهَمَ منه ما لا يَليق ، وهو أبعدُ من هذا في الوهمِ بكثيرٍ . وقال أبو البقاء : " وقيل : يجوزُ أَنْ يكونَ ظرفاً لِما دَلَّ عليه " فوَيْلٌ " . انتهى وهو بعيد .

والمَوْرُ : الاضطرابُ والحركةُ يقال : مار الشيءُ أي : ذهب وجاء . وقال الأخفش وأبو عبيدة : تَكَفَّأ . وأنشد للأعشى :

كأن مِشْيتَها مِنْ بيتِ جارتِها *** مَوْرُ السَّحابةِ لا رَيْثٌ ولا عَجَلُ

وقال الزمخشري : " وقيل هو تحرُّكٌ في تموُّج ، وهو الشيءُ يتردَّدُ في عَرْضٍ كالداغِصة " . قلت : الداغِصَةُ : الجِلْدَةُ التي فوق قُفْل الرُّكْبةِ . وقال الراغب : " المَوْرُ : الجريان السريعُ . ومار الدمُ على وجهِه . والمُوْرُ بالضم : الترابُ المتردِّدُ به الريحُ " . وأكَّد بالمصدَرَيْن رفعاً للمجازِ أي : هذان الجُرْمان العظيمان مع كَثافتهما يقعُ ذلك منهما حقيقةً .