الدر المصون في علم الكتاب المكنون للسمين الحلبي - السمين الحلبي  
{وَمَا مِن دَآبَّةٖ فِي ٱلۡأَرۡضِ وَلَا طَـٰٓئِرٖ يَطِيرُ بِجَنَاحَيۡهِ إِلَّآ أُمَمٌ أَمۡثَالُكُمۚ مَّا فَرَّطۡنَا فِي ٱلۡكِتَٰبِ مِن شَيۡءٖۚ ثُمَّ إِلَىٰ رَبِّهِمۡ يُحۡشَرُونَ} (38)

قوله تعالى : { وَمَا مِن دَآبَّةٍ } : " مِنْ " زائدة لوجود الشرطين وهي مبتدأ ، و " إلا أممٌ " خَبُروها مع ما عُطِفَ عليها . وقوله " في الأرض " صفةٌ لدابَّة ، فيجوز لك أن تجعلَها في محلِّ جر باعتبار اللفظ ، وأن تجعلها في محصل رفع باعتبار الموضع .

قوله : { وَلاَ طَائِرٍ } الجمهور على جرِّه نسقاً على لفظ " دابة " ، وقرأ ابن أبي عبلة برفعه نسقاً على موضعها . وقرأ ابن عباس : " ولا طيرٍ " من غير ألف . وقد تقدَّم الكلامُ فيه : هل هو جمع أو اسم جمع ؟ وقوله : { يطير } في قراءة الجمهور يحتمل أن يكون في محلِّ جر باعتبار لفظه ، ويحتمل أن يكون في محل رفع باعتبار موضعه . وأمَّا على قراءة ابن أبي عبلة ففي محل رفع ليس إلا . وفي قوله " ولا طائر " ذكرُ خاصٍ بعد عام ، لأنَّ الدابَّةَ تَشْمل كلَّ ما دَبَّ من طائرٍ وغيره فهو كقوله : { وَمَلائِكَتِهِ . . . . . وَجِبْرِيلَ } [ البقرة : 98 ] وفيه نظر إذ المقابلة هنا تنفي أن تكون الدابة تشمل الطائر .

قوله : { بِجَنَاحَيْهِ } فيه قولان ، أحدهما : أن الباء متعلقة ب " يطير " وتكونُ الباءُ للاستعانة . والثاني : أن تتعلَّقَ بمحذوف على أنها حال وهي حال مؤكدة ، وفيها رفعُ مَجازٍ يُتَوَهَّم ؛ لأنَّ الطيران يُستعار في السرعة قال :

قومٌ إذا الشرُّ أبدَى ناجِذَيْه لهم *** طاروا إليه زَرافاتٍ ووِحْدانا

ويُطلق الطيرُ على العمل ، قال تعالى : { وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَآئِرَهُ فِي عُنُقِهِ } [ الإِسراء : 13 ] .

وقوله : { إِلاَّ أُمَمٌ } خبر المبتدأ ، وجُمع وإن لم يتقدَّمْهُ إلا شيئان ، لأن المراد بها الجنس . و " أمثالكم " صفة لأُمَم ، يعني أمثالهم في الأرزاق والآجال والموت والحياة والحشر والاقتصاص لمظلومها من ظالمها . وقيل : في معرفة الله وعبادته .

قوله : { مِن شَيْءٍ } فيه ثلاثة أوجه ، أحدها : أن " مِنْ " زائدة في المفعول به والتقدير : ما فرَّطْنا شيئاً ، وتضمَّنه " فرَّطنا " معنى تركنا وأغفلنا ، والمعنى : ما أَغْفَلْنا ولا تَرَكْنا شيئاً . ثم اختلفوا في الكتاب : ما المراد به ؟ فقيل : اللوح المحفوظ ، وعلى هذا فالعموم ظاهر لأن الله تعالى أثبت ما كان وما يكون فيه . وقيل : القرآن ، وعلى هذا فهل العمومُ باقٍ ؟ منهم من قال : نعم ، وأن جميع الأشياء مثبتة في القرآن . إمَّا بالصريح وإمَّا بالإِيماء ، ومنهم من قال : إنه يُراد به الخصوص ، والمعنى : من شيءٍ يحتاج إليه المُكَلَّفون . والثاني : أن " مِنْ " تبعيضيةٌ أي : ما تركْنا ولا أَغْفَلْنا في الكتاب بعضَ شيء يَحْتاج إليه المكلَّف . الثالث : أنَّ " من شيء " في محل نصب على المصدر و " من " زائدة فيه أيضاً . ولم يُجِزْ أبو البقاء غيره ، فإنه قال : " مِنْ " زائدة ، و " شيء " هنا واقع موقع المصدر أي تفريطاً .

وعلى هذا التأويل لا يَبْقى في الآية حجةٌ لمن ظنَّ أن الكتابَ يَحْتوي على ذِكْر كل شيء صريحاً . ونظير ذلك : { لاَ يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً } [ آل عمران : 120 ] ، ولا يجوز أن يكون مفعولاً به لأنَّ " فرَّطْنا " لا يتعدى بنفسه بل بحرف الجر ، وقد عُدِّيَتْ إلى الكتاب ب " في " فلا يتعدَّى بحرف آخر ، ولا يَصِحُّ أن يكون المعنى : ما تركنا في الكتاب من شيء ، لأن المعنى على خلاف فبان التأويل بما ذكرنا " انتهى . قوله : " يحتوي على ذِكْر كل شيء صريحاً " لم يَقُلْ به أحدٌ لأنَّه مكابرة في الضروريات . وقرأ الأعرج وعلقمة : " فَرَطْنا " مخفَّفاً ، فقيل : هما بمعنى . وعن النقاش : فَرَطْنا : أخَّرْنا كما قالوا : " فَرَط الله عنك المرض " أي : أزاله .