الدر المصون في علم الكتاب المكنون للسمين الحلبي - السمين الحلبي  
{إِنَّ إِلَيۡنَآ إِيَابَهُمۡ} (25)

قول : { إِيَابَهُمْ } : العامَّةُ على تخفيفِ الياءِ ، مصدرِ آبَ يَؤُوبُ إياباً [ والأصلُ : أوَب يَأوُبُ إواباً ] ، أي : رَجَعَ ك قام يقوم قياماً . وقرأ شيبة وأبو جعفر بتشديدها . وقد اضطربَتْ فيها أقوالُ التصريفيين ، فقيل : هو مصدرٌ ل أَيَّبَ على وزن فَيْعَل كبَيْطَرَ ، يُقالُ منه : أيَّبَ يُؤَيِّبُ إيَّاباً ، والأصلُ/ أيْوَبَ يِؤَيْوِبُ إيْواباً كبَيْطَرَ يُبَيْطرُ ، فاجتَمَعَتْ الياءُ والواوُ في جميع ذلك ، وسَبَقَتْ إحداهما بالسكونِ ، فقُلِبَتْ الواوُ ياءً ، وأُدغِمت الياءُ المزيدةُ فيها ، فإيَّاب على هذا فِيْعال . وقيل : بل هو مصدرٌ ل أَوّبَ بزنةِ فَوْعَل كحَوْقَلَ ، والأصل : إِوْوَاب بواوَيْن ، الأولى زائدةٌ ، والثانيةُ عينُ الكلمةِ ، فسَكَنَتِ الأولى بعد كسرةٍ ، فقُلِبت ياءً ، فصار إيْواباً ، فاجتمعَتْ ياءٌ وواوٌ ، وسَبَقَتْ إحداهما بالسكون ، فقُلِبَتْ الواوُ ياءً ، وأُدْغِمَتْ في الياءِ بعدها ، فوزنُه فِيعال كحِيْقال ، والأصلُ : حِوْقال . وقيل : بل هو مصدرٌ ل أَوَّبَ على وزن فَعْوَل كجَهْور ، والأصلُ : إِوْوَاب على وزن فِعْوال ، ك " جِهْوار " الأولى عينُ الكلمةِ ، والثانيةُ زائدةٌ ، وفُعِل به ما فُعِل بما قبلَه مِنْ القلبِ والإِدغام للعللِ المتقدمةِ ، وهي مفهومةٌ مِمَّا مَرَّ ، فإن قيل : الإِدغامُ مانعٌ مِنْ قَلْبِ الواوِ ياءً . قيل إنما يمنعُ إذا كانت الواوُ والياءُ عيناً وقد عَرَفْتَ أنَّ الياءَ في فَيْعَل والواوَ في فَوْعَل وفَعْوَل زائدتان . وقيل : بل هو مصدرٌ ل أَوَّب بزنةِ فَعَّلَ نحو : كِذَّاباً والأصلُ إوَّاب ، ثم قُلِبَتِ الواوُ الأولى ياءً لانكسارِ ما قبلَها فقيلَ : إيْواباً . قال الزمخشري : " كدِيْوان في دِوَّان ، ثم فُعِلَ به ما فُعِلَ بسَيِّد " يعني أنَّ أصلَه سَيْوِد ، فقُلِبت وأُدْغِمت ، وإلى هذا نحا أو بالفضل أيضاً .

إلاَّ أن الشيخ قد رَدَّ ما قالاه : بأنهم نَصُّوا : على أنَّ الواوَ الموضوعةَ على الإِدغامِ لا تَقْلِبُ الأولى ياءً ، وإن انكسَرَ ما قبلها قال : " وَمَّثلوا بنفس " إوَّاب " مصدرَ أوَّب مشدداً ، وباخْرِوَّاط مصدرَ اخْرَوَّط . قال : " وأمَّا تشبيهُ الزمخشريِّ بديوان فليس بجيدٍ ؛ لأنَّهم لم يَنْطِقوا بها في الوَضْعِ مُدْغمةً ، ولم يقولوا : دِوَّان ، ولولا الجَمْعُ على " دَواوين " لم يُعْلَمْ أنَّ أصلَ هذه الياءِ واوٌ ، وقد نَصُّوا على شذوذِ " دِيْوان " فلا يُقاسُ عليه غيرُه " .

قلت : أمَّا كونُهم لم يَنْطِقوا بدِوَّان فلا يَلْزَمُ منه رَدُّ ما قاله الزمخشريُّ ، ونَصَّ النحاةُ على أنَّ أصلَ " دِيْوان " دِوَّان ، و " قيراط " : قِرَّاط ، بدليلِ الجَمْعِ على دَواوين وقَرارِيط ، وكونُه شاذاً لا يَقْدَحُ ؛ لأنه لم يَذْكُرْه مَقيساً عليه بل مَنَظِّراً به .

وقد ذهب مكي إلى نحوٍ مِنْ هذا فقال : " وأصل الياءِ واوٌ ، ولكنْ انقلبَتْ ياءً لانكسارِ ما قبلها ، وكان يَلْزَمُ مَنْ شَدَّد أَنْ يقولَ : إوَّابَهم لأنَّه مِنْ الواو ، أو يقول : إيوابهم ، فيُبْدِلُ مِنْ أول المشدد ياءً كما قالوا : " دِيْوان " والأصلُ : دِوَّان " انتهى .

وقيل : هو مصدرٌ لأَأْوَبَ بزنة أَكْرَم مِنْ الأَوْب ، والأصلُ : إأْواب كإكْرام ، فأُبْدِلَتِ الهمزةُ الثانية ل إأْواب ياءً لسكونِها بعد همزةٍ مكسورةٍ فصار اللفظُ إيواباً فاجتمعت الياءُ والواوُ على ما تقدَّم ، فقُلِبَ وأُدْغِمَ ، ووزنُه إفْعال ، وهذا واضحٌ .

وقال ابن عطية في هذا الوجه : " سُهِّلَتِ الهمزةُ وكان الواجبُ في الإِدغامِ بردِّها إوَّاباً ، لكن اسْتُحْسِنَتْ فيه الياءُ على غير قياس " انتهى . وهذا ليس بجيدٍ لِما عَرَفْتَ أنَّه لَمَّا قُلِبَتِ الهمزةُ ياءً فالقياسُ أن يُفْعَلَ ما تقدَّم مِنْ قَلْبِ الواوِ إلى الياءِ مِنْ دونِ عكسٍ ، وإنما ذَكَرْتُ هذه الأوجهَ مشروحةً لصعوبتها مع عَدَمِ مَنْ يُمْعِنُ النظرَ مِنْ المُعْرِبين في مثل هذه المواضعِ القَلِقَةِ القليلةِ الاستعمال . وقَدَّم الخبرَ في قولِه " إلينا " و " علينا " مبالغةً في التشديد والوعيدِ .