اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{فَيَوۡمَئِذٖ لَّا يُعَذِّبُ عَذَابَهُۥٓ أَحَدٞ} (25)

قوله : { فَيَوْمَئِذٍ لاَّ يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ } .

قرأ الكسائي : «لا يعذَّب{[60177]} ولا يُوثَقُ » مبنيين للمفعول ، ورواه أبو قلابة عن النبي صلى الله عليه وسلم بفتح الثاء والذال ، والباقون : قرأوهما مبنيين للفاعل .

فأمَّا قراءة الكسائي : فأسند الفعل فيها إلى : «أحد » ، وحذف الفاعل للعلم به وهو الله تعالى ، والزبانية المتولون العذاب بأمر الله تعالى ، وأما عذابه ووثاقه ، فيجوز أن يكون المصدران مضافين للفاعل ، والضمير لله تعالى ، أو مضافين للمفعول ، والضمير للإنسان ، ويكون «عذابَ » واقعاً موقع تعذيب ، والمعنى : لا يُعذِّبُ أحدٌ مثل تعذيب الله - تعالى - هذا الكافر ، ولا يوثق أحد توثيقاً مثل إيثاق الله إياه بالسلاسل والأغلال ولا يعذب أحد مثل تعذيب الكافر ولا يوثق مثل إيثاقه لكفره ، وعناده .

والوثاق : بمعنى : الإيثاق ، كالعطاء بمعنى الإعطاء ، إلا أن في إعمال اسم المصدر عمل مسمَّاه خلافاً مضطرباً ، فنقل عن البصريين المنع ، وعن الكوفيين الجواز ، ونقل العكس عن الفريقين ؛ ومن الإعمال قوله : [ الوافر ]

5208- أكُفْراً بعْدَ ردِّ المَوْتِ عنِّي *** وبَعْدَ عَطائِكَ المِائةَ الرِّتَاعَا{[60177]}

ومن منع : نصب المائة بفعل مضمرٍ ؛ وأصرح من هذا القول الشاعر : [ الطويل ]

5209-*** . . . تُكَلِّمُنِي فِيهَا شفاءٌ لمَا بِيَا{[2]}

وقيل : المعنى : ولا يحمل عذاب الإنسان أحد ، كقوله تعالى : { وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أخرى } [ الأنعام : 164 ] . قاله الزمخشري{[3]} .

وأما قراءة الباقين : فإنَّه أسند الفعل لفاعله ، والضمير في : «عذابه » ، و«وثاقه » يحتمل عوده على الباري - تعالى - ، بمعنى : أنه لا يعذب في الدنيا ، مثل عذاب الله تعالى يومئذ أحد ، أي : أن عذاب من يعذب في الدنيا ، ليس كعذاب الله - تعالى - يوم القيامة ، كذا قاله أبو عبد الله .

وفيه نظر ، من حيث إنه يلزم أن يكون : «يومئذ » معمولاً للمصدر التشبيهي ، وهو ممتنع لتقدمه عليه ، إلاَّ أن يقال : إنه توسع فيه .

وقيل : المعنى : لا يكل عذابه ، ولا وثاقه لأحد ؛ لأن الأمر لله - تعالى - وحده في ذلك .

وقيل : المعنى : أنه في الشدة ، والفظاعة ، في حين لم يعذب أحد في الدنيا مثله .

ورد هذا ، بأن «لا » ، إذا دخلت على المضارع صيرته مستقبلاً ، وإذا كان مستقبلاً لم يطابق هذا المعنى ، ولا يطلق على الماضي إلاَّ بمجازٍ بعيد ، وبأن يومئذ المراد به يوم القيامة ، لا دار الدُّنيا .

وقيل : المعنى : أنه لا يعذب أحد في الدنيا ، مثل عذاب الله الكافر فيها ، إلا أن هذا مردود بما ورد قبله .

ويحتمل عوده على الإنسان ، بمعنى : لا يعذب أحد من زبانية العذاب ، مثل ما يعذبون هذا الكافر ، ويكون المعنى : لا يحمل أحد عذاب الإنسان ، لقوله تعالى : { وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أخرى } [ الأنعام : 164 ] ، وهذه الأوجه صعبة المرام على طالبها من غير هذا الكتاب .

وقرأ نافع{[4]} في رواية ، وأبو جعفر وشيبة ، بخلاف عنهما : «وثاقه » بكسر الواو .

والمراد بهذا الكافر المعذب ، قيل : إبليس - لعنه الله - ؛ لأنه أشد الناس عذاباً .

وقال الفراء : هو أمية بن خلف .


[2]:ذكره السيوطي في "الدر المنثور" (6/605) وعزاه إلى عبد بن حميد وابن أبي حاتم.
[3]:أخرجه الطبري في "تفسيره" (12/612، 613) عن ابن عباس وأبي عبد الرحمن السلمي والضحاك. وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (/605) عن أبي عبد الرحمن السلمي وزاد نسبته إلى الفريابي وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم.
[4]:أخرجه البخاري (4/301)، كتاب: فضل ليلة القدر، باب: التماس ليلة القدر في السبع الأواخر رقم (2015)، ومسلم (2/822)، كتاب: الصيام، باب: فضل ليلة القدر والحث على طلبها... رقم (205- 1165).
[60177]:ينظر: السبعة 685، والحجة 6/411، وإعراب القراءات 2/480، وحجة القراءات 763.