الدر المصون في علم الكتاب المكنون للسمين الحلبي - السمين الحلبي  
{وَٱلۡقَمَرِ إِذَا تَلَىٰهَا} (2)

قوله : { إِذَا تَلاَهَا } وما بعدَه فيه إشكالٌ ؛ لأنه إنْ جُعِل شرطاً اقتضى جواباً ، ولا جوابَ لفظاً ، وتقديرُه غيرُ صالحٍ ، وإنْ جُعِلَ ظرفاً مَحْضاً استدعى عاملاً ، وليس هنا عاملٌ إلاَّ فعلُ القسم ، وإعمالُه مُشْكِلٌ ؛ لأنَّ فعلَ القسمِ حالٌ لأنه إنشاءٌ ، و " إذا " ظرفٌ مستقبلٌ ، والحال لا يعملُ في المستقبلِ . وسيأتي جوابُ هذا وتحقيقُه عند ذِكْري سَبْرَه وتقسيمَه قريباً إن شاء الله تعالى .

ويَخُصُّ " إذا " الثانيةَ وما بعدها إشكالٌ آخرُ ذكره الزمخشري فيه غموضٌ فتنبَّهْ له قال : " فإن قلتَ : الأمرُ في نصبِ " إذا " مُعْضِلٌ ؛ لأنك لا تخلو : إمَّا أَنْ تجعلَ الواواتِ عاطفةً فتنصِبَ بها وتَجُرَّ فتقعَ في العطفِ على عاملَيْن ، وفي نحو قولك : " مررتُ أمسِ بزيدٍ واليومَ عمروٍ " وإمَّا أَنْ تجعلَهُنَّ للقسم فتقعَ فيما اتَّفق الخليلُ وسيبويه على استكراهِه . قلت : الجوابُ فيه أن واوَ القسم مُطَّرَحٌ معها إبرازُ الفعلِ أطِّراحاً كلياً ، فكان لها شأنٌ خلافَ شأنِ الباء حيث أُبْرِزَ معَها الفعلُ وأُضْمِرَ ، فكانت الواوُ قائمةً مَقامَ الفعلِ ، والباءُ سادَّةٌ مَسَدَّهما معاً ، والواواتُ العواطفُ نوائبُ عن هذه الواوِ فحققن أَنْ يَكُنَّ عواملَ عملَ الفعلِ والجارِّ جميعاً كما تقول : " ضربَ زيدٌ عمراً وبكرٌ خالداً " فترفعُ بالواوِ وتنصِبُ ، لقيامِها مَقامَ " ضرب " الذي هو عامِلُهما " انتهى .

قال الشيخ : " إمَّا قولُه : " في واوات العطف : فَتَنْصِبَ بها وتجرَّ " فليس هذا بالمختار ، أعني أَنْ يكونَ حرفُ العطفِ عاملاً لقيامِه مَقامَ العاملِ ، بل المختارُ أنَّ العملَ إنما هو للعاملِ في المعطوفِ عليه ، ثم إنا لا نُشاحُّه في ذلك . وقوله : " فتقع / في العطفِ على عاملَيْن " ليس ما في الآيةِ من العطفِ على عاملَيْن ، وإنما هو مِنْ بابِ عطفِ اسمَيْن : مجرورٍ ومنصوبٍ على اسمَيْن : مجرورٍ ومنصوبٍ ، فحرفُ العطفِ لم يَنُبْ مَنابَ عامِلَيْنِ ، وذلك نحوُ قولِك : " امرُرْ بزيدٍ قائماً وعمروٍ جالساً " وأنشدَ سيبويهِ في كتابه :

وليس بمعروفٍ لنا أَنْ نَرُدَّها *** صِحاحاً ولا مُسْتَنْكرٍ أن تُعَقَّرا

فهذا مِنْ عَطْفِ مجرورٍ ومرفوعٍ ، على مجرورٍ ومرفوعٍ ، والعطفُ على عاملَيْن فيه أربعةُ مذاهبَ ، ونُسِب الجوازُ إلى سيبويهِ . وقوله : وفي قولِك : " مررْتُ أمسِ بزيدٍ واليومَ عمروٍ " هذا المثالُ مُخالِفٌ لما في الآيةِ ، بل وِزانُ ما في الآية : " مررْتُ بزيدٍ أمسٍ وعمروٍ اليومَ " ونحن نُجيز هذا وأمَّا قولُه " على استكراه " فليس كما ذَكَر ، بل كلامُ الخليلِ يَدُلُّ على المَنْعِ قال الخليلُ في قولِه عزَّو جلّ : { وَالْلَّيْلِ إِذَا يَغْشَى وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالأُنثَى } [ الليل : 13 ] . الواوان الأخيرتان ليستا بمنزلةِ الأولى ، ولكنهما الواوانِ اللتان تَضُمَّان الأسماءَ إلى الأسماء في قولِك : " مررتُ بزيدٍ وعمرو " والأُولى بمنزلةِ التاء والباء . وأمَّا قولُه : إنَّ واوَ القسم مُطَّرَحٌ معها إبرازُ الفعلِ اطِّراحاً كلياً " فليس هذا الحكمُ مُجْمَعاً عليه ؛ بل أجازَ ابنُ كَيْسانَ التصريحَ بفعلِ القسمِ مع الواوِ ، فتقول : أُقْسِم - أو أَحْلِفُ - واللَّهِ لَزيدٌ قائمٌ ، وأمَّا قَولُه : " والواوات العواطفُ نوائبُ عن هذه " إلى أخره فمبنيُّ على أَنْ حرفَ العطفِ عاملٌ لنيابتِهِ منابَ العاملِ وليس هذا بالمختار " قال : " والذي نقوله : إنَّ المُعْضِلَ هو تقديرُ العاملِ في " إذا " بعد الأقسام ، كقوله : { وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى } [ النجم : 1 ] { وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ } [ المدثر : 33 ] { وَالصُّبْحِ إِذَآ أَسْفَرَ } [ المدثر : 34 ] { وَالْقَمَرِ إِذَا تَلاَهَا } { وَالْلَّيْلِ إِذَا يَغْشَى } [ الليل : 1 ] وما أَشْبهها ، فإذا ظرفٌ مستقبلٌ ، لا جائزٌ أَنْ يكونَ العاملُ فيه فعلَ القسمِ المحذوفِ لأنه فعل إنشائيُّ فهو في الحال ينافي أَنْ يَعْمَلَ في المستقبلِ لاختلافِ زمانِ العاملِ وزمانِ المعمولِ . ولا جائز أَنْ يكونَ ثمَّ مضافٌ محذوفٌ ، أُقيم المُقْسَمُ به مُقامه ، أي : وطلوعِ النجمِ ومجيءِ الليلِ ، لأنه معمولٌ لذلك الفعلِ ، فالطلوعُ حالٌ ولا يعملُ في المستقبل ضرورةَ أنَّ زمان العاملِ زمانُ المعمول . ولا جائزٌ أَنْ يعملَ فيه نفسُ المُقْسَمِ به ؛ لأَنه ليس من قبيلِ ما يَعْمل ، لا سيما إنْ كان جُرْماً . ولا جائزٌ أنْ يُقدَّرَ محذوفٌ قبل الظرفِ فيكونُ قد عملَ فيه ، ويكون ذلك العاملُ في موضعِ الحال وتقديرُه : والنجمِ كائناً إذا هوى ، والليلِ كائناً إذا يَغْشى ؛ لأنه يَلْزَمُ " كائناً " أنْ لا يكونَ منصوباً بعاملٍ ، ولا يَصِحُّ أَنْ يكونَ معمولاً لشيء مِمَّا فَرَضْناه أن يكونَ عاملاً . وأيضاً فقد يكونُ المُقْسَمُ به جثةً وظروفُ الزمانِ لا تكون أحوالاً عن الجثثِ ، كما لا تكونُ أخباراً " انتهى ما رَدَّ به الشيخُ وما استشكلَه مِنْ أمرِ العاملِ في " إذا " وأنا بحمدِ اللَّهِ أتتبَّعُ قولَه وأبيِّنُ ما فيه .

فقوله : " إن المختارَ أن حرفَ العطفِ لا يعملُ لقيامِه مَقامَ العاملِ فلا يَلْزَمُ أبا القاسم ، لأنه يختارُ القولَ الآخَرَ . وقوله : " ليس ما في هذه الآية مِنْ العطفِ على عاملَيْن " ممنوعٌ بل فيه العطفُ على عاملَيْن ولكنْ فيه غموضٌ ، وبيانُ أنه مِنْ العطفِ على عاملَيْن : أنَّ قولَه : { وَالنَّهَارِ إِذَا جَلاَّهَا } هنا معمولان أحدُهما مجرورٌ وهو " النهار " والآخرُ منصوبٌ وهو الظرفُ ، عطفاً على معمولَيْ عاملَيْن ، والعاملان هما : فعلُ القسمِ الناصبُ ل " إذا " الأولى ، وواوُ القسمِ الجارَّةُ ، فقد تحقَّق معك عاملانِ لهما معمولان ، فإذا عَطَفْتَ مجروراً على مجرور ، وظرفاً على ظرف ، معمولَيْن لعاملَين لَزم ما قاله أبو القاسم . وكيف يُجْهَلُ هذا ما التأمَّلِ والتحقيق ؟

وأمَّا قولُه : " وأنشد سيبويهِ إلى آخره " فهو اعترافٌ منه بأنَّه من العطفِ على عاملَيْن ، غايةُ ما في الباب أنه استندَ إلى جاهِ سيبويهِ .

وأمَّا قولُه " أجازَ ابنُ كَيْسان / فلا يَلْزَمُه مذهبُه . وأمَّا قولُه : " فالمثالُ كالآيةِ ، بل وزانها إلى آخره " فصحيحٌ لما فيه مِنْ تقديمِ الظرفِ الثاني على المجرورِ المعطوفِ ، والآيةُ الظرفُ فيها متأخرٌ ، وإنما مرادُ الزمخشريِّ وجودُ معمولَيْ عاملَيْنِ ، وهو موجودٌ في المثالِ المذكورِ ، إلاَّ أنَّ فيه إشكالاً آخر : وهو أنَّه كالتكريرِ للمسألةِ .

وأمَّا قولُه " بل كلامُ الخليلِ يَدُلُّ على المنعِ إلى آخره " فليس فيه رَدٌّ عليه بالنسبةِ إلى ما قصدَه ، بل فيه تقويةٌ لِما قالَه . غايةُ ما في البابِ أنه عَبَّر بالاستكراهِ عن المنعِ ، أو لم يَفْهَمِ المَنْعَ . وقوله : " ولا جائزٌ أَنْ يكونَ ثَمَّ مضافٌ محذوفٌ " إلى آخره ، فأقول : بل يجوزُ تقديرُه : وهو العاملُ ، ولا يَلْزَمُ ما قال مِنْ اختلاف الزمانَيْن ؛ لأنه يجوزُ أَنْ يُقْسِمَ الآن بطلوع النجمِ في المستقبل ، فالقَسَمُ في الحالِ والطُّلوعُ في المستقبلِ ، ويجوزُ أَنْ يُقْسِمَ بالشيء الذي سيوجَدُ . وقوله : " ولا جائزٌ أَنْ يُقدَّرَ محذوفٌ قبل الظرفِ ، فيكون قد عَمِل فيه " إلى آخره ليس بممنوع بل يجوزُ ذلك ، وتكون حالاً مقدرةً . قوله : " يَلْزَم أَنْ لا يكونَ له عاملٌ " ليس كذلك بل له عاملٌ وهو فعلُ القسم ، ولا يَضُرُّ كونُه إنشائياً ؛ لأنَّ الحالَ مقدرةٌ كما تقدَّم . قوله : " وقد يكونُ المُقْسَمُ به جثةً " جوابُه : يُقَدَّرُ حينئذٍ حَدَثٌ يكون الظرفُ الزمانيُّ حالاً عنه ، وهذه المسألةُ سُئِلَ عنها الشيخُ أبو عمروٍ ابنُ الحاجبِ ونَقَّحَ فيها السؤالَ وأجابَ بنحوِ ما ذكَرْتُه واللَّهُ أعلمُ ، ولا يخلُو الكلامُ فيها مِنْ نزاعٍ وبحثٍ طويلٍ معه .