لما ذكر تعالى خَلْق الإنسان ، عطف بذكر خلق السموات السبع ، وكثيرًا ما يذكر تعالى خلق السموات والأرض{[20513]} مع خلق الإنسان ، كما قال تعالى : { لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ } [ غافر : 57 ] . وهكذا في أول { الم } السجدة ، التي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ بها [ في ]{[20514]} صبيحة يوم الجمعة ، في أولها خَلْقُ السموات والأرض ، ثم بيان خلق الإنسان من سلالة من طين ، وفيها أمر المعاد والجزاء ، وغير ذلك من المقاصد .
فقوله : { سَبْعَ طَرَائِقَ } : قال مجاهد : يعني السموات السبع ، وهذه كقوله تعالى : { تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالأرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ } [ الإسراء : 44 ] ، { أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا } [ نوح : 15 ] ، { اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الأرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنزلُ الأمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا } [ الطلاق : 12 ] . وهكذا قال هاهنا : { وَلَقَدْ خَلَقْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرَائِقَ وَمَا كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غَافِلِينَ } أي : ويعلم ما يلج في الأرض وما يخرج منها ، وما ينزل من السماء وما يعرُج فيها ، وهو معكم أينما كنتم ، والله بما تعملون بصير . وهو - سبحانه - لا يَحجبُ عنه سماء سماء ، ولا أرض أرضًا ، ولا جبل إلا يعلم ما في وَعْره ، ولا بحر إلا يعلم ما في قَعْره ، يعلم عدد ما في الجبال والتلال والرمال ، والبحار والقفار والأشجار ، { وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلا يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ } [ الأنعام : 59 ] .
انتقال من الاستدلال بخلق الإنسان إلى الاستدلال بخلق العوالم العلوية لأن أمرها أعجب ، وإن كان خلق الإنسان إلى نظره أقرب ، فالجملة عطف على جملة { ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين } [ المؤمنون : 12 ] وإنما ذكر هذا عقب قوله : { ثم إنكم يوم القيامة تُبعثون } [ المؤمنون : 16 ] للتنبيه على أن الذي خلق هذا العالم العلوي ما خلقه إلاّ لحكمة ، وأن الحكيم لا يهمل ثواب الصالحين على حسناتهم ، ولا جزاء المسيئين على سيئاتهم ، وأن جعْله تلك الطرائق فوقنا بحيث نراها ليدلنا على أن لها صلة بنا لأن عالم الجزاء كائن فيها ومخلوقاته مُستقرة فيها ، فالإشارة بهذا الترتيب مثل الإشارة بعكسه في قوله : { وما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما لاعبين ما خلقناهما إلاّ بالحق ولكن أكثرهم لا يعلمون إنّ يوم الفصل ميقاتهم أجمعين } [ الدخان : 38 40 ] .
والطرائق : جمع طريقة وهي اسم للطريق تذكر وتؤنث ، والمراد بها هنا طرائق سير الكواكب السبعة وهي أفلاكها ، أي الخطوط الفرضية التي ضَبط الناس بها سُمُوتَ سَيْر الكواكب ، وقد أطلق على الكوكب اسم الطارق في قوله تعالى : { والسماء والطارق } [ الطارق : 1 ] من أجل أنه ينتقل في سمت يسمى طريقة فإن الساير في طريق يقال له : طارق ، ولا شك أن الطرائق تستلزم سائرات فيها ، فكان المعنى : خلقنا سيَّارات وطرائقها .
وذِكر { فوقكم } للتنبيه على وجوب النظر في أحوالها للاستدلال بها على قدرة الخالق لها تعالى فإنها بحالة إمكان النظر إليها والتأمل فيها .
ولأن كونها فوق الناس مما سهل انتفاعهم بها في التوقيت ولذلك عقب بجملة { وما كنا عن الخلق غافلين } المشعر بأن في ذلك لطفاً بالخلق وتيسيراً عليهم في شؤون حياتهم ، وهذا امتنان ، فالواو في جملة { وما كنا عن الخلق غافلين } للحال ، والجملة في موضع الحال ، وفيه تنبيه للنظر في أن عالم الجزاء كائن بتلك العوالم قال تعالى : { وفي السماء رزقكم وما توعدون } [ الذاريات : 22 ] .
والخلق مفعول سمي بالمصدر ، أي ما كنا غافلين عن حاجة مخلوقاتنا يعني البشر ، ونفي الغفلة كناية عن العناية والملاحظة ، فأفاد ذلك أن في خلق الطرائق السماوية لِمَا خلقت له لطفاً بالناس أيضاً إذ كان نظام خلقها صالحاً لانتفاع الناس به في مواقيتهم وأسفارهم في البر والبحر كما قال : { وهو الذي جعل لكمُ النجوم لِتَهْتَدُوا بها في ظُلُمَاتِ البر والبحر } [ الأنعام : 97 ] . وأعظم تلك الطرائق طريقة الشمس مع ما زادت به من النفع بالإنارة وإصلاح الأرض والأجساد ، فصار المعنى : خلقنا فوقكم سبع طرائق لحكمة لا تعلمونها وما أهملنا في خلقها رعْيَ مصالحكم أيضاً .
والعدول عن الإضمار إلى الإظهار في قوله : { وما كنا عن الخلق غافلين } دون أن يقال : وما كنا عنكم غافلين ، لما يفيده المشتق من معنى التعليل ، أي ما كنا عنكم غافلين لأنكم مخلوقاتنا فنحن نعاملكم بوصف الربوبيَّة ، وفي ذلك تنبيه على وجوب الشكر والإقلاع عن الكفر .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{ولقد خلقنا فوقكم سبع طرائق} يعني: سماوات... {وما كنا عن الخلق غافلين}، يعني: عن خلق السماء وغيره.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: ولقد خلقنا فوقكم أيها الناس سبع سماوات بعضهنّ فوق بعض، والعرب تسمي كل شيء فوق شيء طريقة. وإنما قيل للسماوات السبع سبع طرائق، لأن بعضهنّ فوق بعض، فكل سماء منهنّ طريقة...
"وَما كُنّا عَنِ الخَلْقِ غافِلينَ"..:وما كنا في خلقنا السموات السبع فوقكم عن خلقنا الذي تحتها غافلين، بل كنا لهم حافظين من أن تسقط عليهم فتهلكهم.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{وما كنا عن الخلق غافلين} أي لم نخلقهم على جهل منا بأحوالهم، ولكن على علم منا بذلك. ولا يحتمل أن يكون خلقه إياهم على علم منه، ثم يخلقهم للفناء لا للعاقبة تُتأمل، لأن من فعل هذا في الشاهد فإنما يفعل إما للجهل أو لحاجة، والله يتعالى عن ذلك كله. أو يكون قوله: {وما كنا عن الخلق غافلين} خلق ما ذكر، أي إذا عرفتم أن خلق هذه الأشياء لا لأنفسها ولكن لأنفسكم ولمنافعكم فلا يحتمل أن يكون خلقها لكم بلا محنة ولا ابتلاء. فإن ثبتت المحنة فيكم ثبت الثواب والعقاب. فإذا ثبت هذا ثبت البعث والحياة، والله أعلم.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
أراد بالخلق السموات، كأنه قال: خلقناها فوقهم {وَمَا كُنَّا} عنها {غافلين} وعن حفظها وإمساكها أن تقع فوقهم بقدرتنا. أو أراد به الناس وأنه إنما خلقها فوقهم ليفتح عليهم الأرزاق والبركات منها، وينفعهم بأنواع منافعها، وما كان غافلاً عنهم وما يصلحهم.
اعلم أن هذه الآية دالة على كثير من المسائل:
إحداها: أنها دالة على وجود الصانع، فإن انقلاب هذه الأجسام من صفة إلى صفة أخرى تضاد الأولى مع إمكان بقائها على تلك الصفة يدل على أنه لابد من محول ومغير. وثانيتها: أنها تدل على فساد القول بالطبيعة فإن شيئا من تلك الصفات لو حصل بالطبيعة لوجب بقاؤها وعدم تغيرها ولو قلت إنما تغيرت تلك الصفات لتغير تلك الطبيعة افتقرت تلك الطبيعة إلى خالق وموجد.
وثالثتها: تدل على أن المدبر قادر عالم لأن الموجب والجاهل لا يصدر عنه هذه الأفعال العجيبة.
ورابعتها: تدل على أنه عالم بكل المعلومات قادر على كل الممكنات.
وخامستها: تدل على جواز الحشر والنشر نظرا إلى صريح الآية ونظرا إلى أن الفاعل لما كان قادرا على كل الممكنات وعالما بكل المعلومات وجب أن يكون قادرا على إعادة التركيب إلى تلك الأجزاء كما كانت.
وسادستها: أن معرفة الله تعالى يجب أن تكون استدلالية لا تقليدية وإلا لكان ذكر هذه الدلائل عبثا.
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :
لما ذكر تعالى خلق الآدمي، ذكر سكنه، وتوفر النعم عليه من كل وجه فقال: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا فَوْقَكُمْ} سقفا للبلاد، ومصلحة للعباد {سَبْعَ طَرَائِقَ} أي: سبع سماوات طباقا، كل طبقة فوق الأخرى، قد زينت بالنجوم والشمس والقمر، وأودع فيها من مصالح الخلق ما أودع، {وَمَا كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غَافِلِينَ} فكما أن خلقنا عام لكل مخلوق، فعلمنا أيضا محيط بما خلقنا، فلا نغفل مخلوقا ولا ننساه، ولا نخلق خلقا فنضيعه، ولا نغفل عن السماء فتقع على الأرض، ولا ننسى ذرة في لجج البحار وجوانب الفلوات، ولا دابة إلا سقنا إليها رزقها {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا} وكثيرا ما يقرن تعالى بين خلقه وعلمه كقوله: {أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} {بَلَى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ} لأن خلق المخلوقات، من أقوى الأدلة العقلية، على علم خالقها وحكمته.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
ومن دلائل الإيمان في الأنفس ينتقل إلى دلائل الإيمان في الآفاق. مما يشهده الناس ويعرفونه، ثم يمرون عليه غافلين: (ولقد خلقنا فوقكم سبع طرائق، وما كنا عن الخلق غافلين. وأنزلنا من السماء ماء بقدر فأسكناه في الأرض؛ وإنا على ذهاب به لقادرون. فأنشأنا لكم به جنات من نخيل وأعناب، لكم فيها فواكه كثيرة، ومنها تأكلون. وشجرة تخرج من طور سيناء تنبت بالدهن وصبغ للآكلين. وإن لكم في الأنعام لعبرة نسقيكم مما في بطونها، ولكم فيها منافع كثيرة، ومنها تأكلون. وعليها وعلى الفلك تحملون).. إن السياق يمضي في استعراض هذه الدلائل، وهو يربط بينها جميعا. يربط بينها بوصفها من دلائل القدرة؛ ويربط بينها كذلك بوصفها من دلائل التدبير؛ فهي متناسقة في تكوينها، متناسقة في وظائفها، متناسقة في اتجاهها. كلها محكومة بناموس واحد؛ وكلها تتعاون في وظائفها؛ وكلها محسوب فيها لهذا الإنسان الذي كرمه الله حساب. ومن ثم يربط بين هذه المشاهد الكونية وبين أطوار النشأة الإنسانية في سياق السورة.
وعلى أية حال فهي سبع خلائق فلكية فوق البشر -أي إن مستواها أعلى من مستوى الأرض في هذا الفضاء- خلقها الله بتدبير وحكمة، وحفظها بناموس ملحوظ...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
انتقال من الاستدلال بخلق الإنسان إلى الاستدلال بخلق العوالم العلوية لأن أمرها أعجب، وإن كان خلق الإنسان إلى نظره أقرب، فالجملة عطف على جملة {ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين} [المؤمنون: 12] وإنما ذكر هذا عقب قوله: {ثم إنكم يوم القيامة تُبعثون} [المؤمنون: 16] للتنبيه على أن الذي خلق هذا العالم العلوي ما خلقه إلاّ لحكمة، وأن الحكيم لا يهمل ثواب الصالحين على حسناتهم، ولا جزاء المسيئين على سيئاتهم، وأن جعْله تلك الطرائق فوقنا بحيث نراها ليدلنا على أن لها صلة بنا لأن عالم الجزاء كائن فيها ومخلوقاته مُستقرة فيها، فالإشارة بهذا الترتيب مثل الإشارة بعكسه في قوله: {وما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما لاعبين ما خلقناهما إلاّ بالحق ولكن أكثرهم لا يعلمون إنّ يوم الفصل ميقاتهم أجمعين} [الدخان: 38 40]. والطرائق: جمع طريقة وهي اسم للطريق تذكر وتؤنث، والمراد بها هنا طرائق سير الكواكب السبعة وهي أفلاكها، أي الخطوط الفرضية التي ضَبط الناس بها سُمُوتَ سَيْر الكواكب، وقد أطلق على الكوكب اسم الطارق في قوله تعالى: {والسماء والطارق} [الطارق: 1] من أجل أنه ينتقل في سمت يسمى طريقة فإن الساير في طريق يقال له: طارق، ولا شك أن الطرائق تستلزم سائرات فيها، فكان المعنى: خلقنا سيَّارات وطرائقها. وذِكر {فوقكم} للتنبيه على وجوب النظر في أحوالها للاستدلال بها على قدرة الخالق لها تعالى فإنها بحالة إمكان النظر إليها والتأمل فيها. ولأن كونها فوق الناس مما سهل انتفاعهم بها في التوقيت ولذلك عقب بجملة {وما كنا عن الخلق غافلين} المشعر بأن في ذلك لطفاً بالخلق وتيسيراً عليهم في شؤون حياتهم، وهذا امتنان، فالواو في جملة {وما كنا عن الخلق غافلين} للحال، والجملة في موضع الحال، وفيه تنبيه للنظر في أن عالم الجزاء كائن بتلك العوالم قال تعالى: {وفي السماء رزقكم وما توعدون} [الذاريات: 22].
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
{وَمَا كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غَافِلِينَ} لأن الله الذي خلق الإنسان وصوّره بأحسن صورة، وسخّر له الكون ليستفيد منه في استمرار حياته، لن يترك عبده ويغفل عن رعايته في كل ما يحتاج إليه، كما أنه تعالى لن يتركه يتخبط في وعورة الطريق دون أن ينزل عليه رحمته، ويدفع عنه أسباب البلاء برحمته وقدرته، وهو لن تأخذه سنة في مراقبته في كل ما يؤديه من أعمال، وما ينطق به من أقوال، وهكذا، يعيش هذا الإنسان الشعور بأن الله يحيط به من بين يديه ومن خلفه وعن يمينه وشماله، فلا يقوم إلاّ بما يمليه عليه هذا الشعور.