نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي - البقاعي  
{وَلَقَدۡ خَلَقۡنَا فَوۡقَكُمۡ سَبۡعَ طَرَآئِقَ وَمَا كُنَّا عَنِ ٱلۡخَلۡقِ غَٰفِلِينَ} (17)

ولما بين لهم أن فكرهم فيهم يكفيهم ، ولاعتقاد البعث يعنيهم ، أتبعه دليلاً آخر بالتذكير بخلق ما هو أكبر منهم ، وبتدبيرهم بخلقه وخلق ما فيه من المنافع لاستبقائهم ، فقال : { ولقد خلقنا قوقكم } في جميع جهة الفوق في ارتفاع لا تدركونه حق الإدراك { سبع } ولإرادة التعظيم أضاف إلى جمع كثرة فقال : { طرائق } أي سماوات لا تتغير عن حالتها التي دبرناها عليها إلى أن نريد ، وبعضها فوق بعض متطابقة ، وكل واحدة منها على طريقة تخصها ، وفيها طرق لكواكبها ؛ قال الإمام عبد الحق الإشبيلي في كتابه الواعي : سميت طرائق لأنها مطارقة بعضها في أثر بعض - انتهى . وهذا من قولهم : فلان على طريقة - أي حالة - واحدة ، وهذا مطراق هذا ، أي تلوه ونظيره ، وريش طراق - إذا كان بعضه فوق بعض . وقال ابن القطاع : وأطرق جناح الطائر - أي مبنياً للمجهول : ألبس الريش الأعلى الأسفل . وقال أبو عبيد الهروي : وأطرق جناح الطير - إذا وقعت ريشة على التي تحتها فألبستها ، وفي ريشه طرق - إذا ركب بعضه بعضاً . وقال الصغاني في مجمع البحرين : والطرق أيضاً بالتحريك في الريش أن يكون بعضها فوق بعض ، وقال ابن الأثير في النهاية : طارق النعل - إذا صيرها طاقاً فوق طاق وركب بعضها على بعض ، وفي القاموس : والطراق - ككتاب : كل خصفة يخصف بها النعل وتكون حذوها سواء وأن يقور جلد على مقدار الترس فيلزق بالترس ، وقال القزاز : يقال : ترس مُطرَق - إذا جعل له ذلك ، وقال الصغاني في المجمع : والمجان المطرقة التي يطرق بعضها على بعض كالنعل المطرقة - أي المخصوفة بعضها على بعض ، ويقال : أطرقت بالجلد والعصب ، أي ألبست ، وقال أبو عبيد : طارق النعل - إذا صير خصفاً فوق خصف ، وقال في الخصف : هو إطباق طاق على طاق ، وأصل الخصف : الضم والجمع ، وقال القزاز : وطارقت بين النعلين والثوبين : جعلت أحدهما فوق الآخر - انتهى . وأصل الطرق الضرب ، ومع كون السماوات مطارقة بعضها فوق بعض فهي طرق للملائكة يتنزلون فيها بأوامره سبحانه وتعالى .

ولما كان إهمال الشيء بعد إيجاده غفلة عنه ، وكان البعث إحداث تدبير لم يكن كما أن الموت كذلك ، بين أن مثل تلك الأفعال الشريفة عادته سبحانه إظهاراً للقدرة وتنزهاً عن العجز والغفلة فقال : { وما كنا } أي على ما لنا من العظمة { عن الخلق } أي الذي خلقناه وفرغنا من إيجاده وعن إحداث ما لم يكن ، بقدرتنا التامة وعلمنا الشامل { غافلين* } بل دبرناه تدبيراً محكماً ربطناه بأسباب تنشأ عنها مسببات يكون بها صلاحه ، وجعلنا في كل سماء ما ينبغي أن يكون فيها من المنافع ، وفي كل أرض كذلك ، وحفظناه من الفساد إلى الوقت الذي نريد فيه طيّ هذا العالم وإبراز غيره ، ونحن مع ذلك كل يوم في شأن ، وإظهار برهان ، نعلم ما يلج في الأرض وما يخرج منها ، وما ينزل من السماء وما يعرج فيها ، إذا شئنا أنفذنا السبب فنشأ عنه المسبب ، وإذا شئنا منعناه مما هيىء له ، فلا يكون شيء من ذلك إلا بخلق جديد ، فكيف يظن بنا أنا نترك الخلق بعد موتهم سدى ، مع أن فيهم المطيع الذي لم نوفه ثوابه ، والعاصي الذي لم ننزل به عقابه ، أم كيف لا نقدر على إعادتهم إلى ما كانوا عليه بعد ما قدرنا على إبداعهم ولم يكونوا شيئاً .