تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلنَّبِيُّ قُل لِّأَزۡوَٰجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَآءِ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ يُدۡنِينَ عَلَيۡهِنَّ مِن جَلَٰبِيبِهِنَّۚ ذَٰلِكَ أَدۡنَىٰٓ أَن يُعۡرَفۡنَ فَلَا يُؤۡذَيۡنَۗ وَكَانَ ٱللَّهُ غَفُورٗا رَّحِيمٗا} (59)

يقول تعالى آمرا رسوله ، صلى الله عليه وسلم تسليما ، أن يأمر النساء المؤمنات - خاصة أزواجه وبناته لشرفهن - بأن يدنين عليهن من جلابيبهن ، ليتميزن عن سمات نساء الجاهلية وسمات الإماء . والجلباب هو : الرداء فوق الخمار . قاله ابن مسعود ، وعبيدة ، وقتادة ، والحسن البصري ، وسعيد بن جبير ، وإبراهيم النخعي ، وعطاء الخراساني ، وغير واحد . وهو بمنزلة الإزار اليوم .

قاله الجوهري : الجلباب : الملحفة ، قالت امرأة من هذيل ترثي قتيلا لها :

تَمْشي النُّسور إليه وَهْيَ لاهيةٌ *** مَشْيَ العَذَارى عَلَيْهِنَّ الجَلابيبُ{[24044]}

قال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : أمر الله نساء المؤمنين{[24045]} إذا خرجن من بيوتهن في حاجة أن يغطين وجوههن من فوق رؤوسهن بالجلابيب ، ويبدين عينًا واحدة .

وقال محمد بن سيرين : سألت عَبيدةَ السّلماني عن قول الله تعالى : { يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ } ، فغطى وجهه ورأسه وأبرز عينه اليسرى .

وقال عكرمة : تغطي ثُغْرَة نحرها بجلبابها تدنيه عليها .

وقال{[24046]} ابن أبي حاتم : أخبرنا أبو عبد الله الظَّهراني{[24047]} فيما كتب إليّ ، حدثنا عبد الرزاق ، أخبرنا مَعْمَر ، عن ابن خُثَيْم ، عن صفية بنت شيبة ، عن أم سلمة قالت : لما نزلت هذه الآية : { يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ } ، خرج نساء الأنصار كأن على رؤوسهن الغربان من السكينة ، وعليهن أكسية سود يلبسنها{[24048]} .

وقال{[24049]} ابن أبي حاتم ، حدثنا أبي ، حدثنا أبو صالح ، حدثني الليث ، حدثنا يونس بن يزيد قال : وسألناه{[24050]} يعني : الزهري - : هل على الوليدة خمار متزوجة أو غير متزوجة ؟ قال : عليها الخمار إن كانت متزوجة ، وتنهى عن الجلباب لأنه يكره لهن أن يتشبهن بالحرائر إلا محصنات{[24051]} . وقد قال الله تعالى : { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ } .

وروي عن سفيان الثوري أنه قال : لا بأس بالنظر إلى زينة نساء أهل الذمة ، إنما ينهى عن ذلك لخوف الفتنة ؛ لا لحرمتهن ، واستدل بقوله تعالى : { وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ } .

وقوله : { ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ } أي : إذا فعلن ذلك عُرِفْنَ أنَّهن حرائر ، لسن بإماء ولا عواهر ، قال السدي في قوله تعالى : { [ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ ] قُلْ لأزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ }{[24052]} قال : كان ناس من فساق أهل المدينة يخرجون بالليل حين يختلط الظلام إلى طرق المدينة ، يتعرضون للنساء ، وكانت مساكن أهل المدينة ضَيِّقة ، فإذا كان الليل خرج النساء إلى الطرق يقضين حاجتهن ، فكان أولئك الفساق يبتغون ذلك منهن ، فإذا رأوا امرأة عليها جلباب قالوا : هذه حرة ، كفوا عنها . وإذا رأوا المرأة ليس عليها جلباب ، قالوا : هذه أمة . فوثبوا إليها{[24053]} .

وقال مجاهد : يتجلببن فيعلم أنهن حرائر ، فلا يتعرض لهن فاسق بأذى ولا ريبة .

وقوله : { وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا } أي : لما سلف في أيام الجاهلية حيث لم يكن عندهن علم بذلك .


[24044]:- الصحاح (1/101).
[24045]:- في ت ، ف ، أ: "المؤمنات".
[24046]:- في ت: "وروى".
[24047]:- في أ: "الطبراني".
[24048]:- تفسير عبد الرزاق (2/101) ورواه الحسن بن مسلم عن صفية بنت شيبة عن عائشة مثله ، وأخرجه البخاري في صحيحه برقم (4759).
[24049]:- في ت: "وروى".
[24050]:- في ت: "سئل".
[24051]:- في أ: "بالحرائر المحصنات".
[24052]:- زيادة من أ.
[24053]:- في ت ، ف: "عليها"
 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلنَّبِيُّ قُل لِّأَزۡوَٰجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَآءِ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ يُدۡنِينَ عَلَيۡهِنَّ مِن جَلَٰبِيبِهِنَّۚ ذَٰلِكَ أَدۡنَىٰٓ أَن يُعۡرَفۡنَ فَلَا يُؤۡذَيۡنَۗ وَكَانَ ٱللَّهُ غَفُورٗا رَّحِيمٗا} (59)

أتبع النهي عن أذى المؤمنات بأن أمرن باتقاء أسباب الأذى لأن من شأن المطالب السعي في تذليل وسائلها كما قال تعالى : { ومن أراد الآخرة وسعى لها سعيها } [ الإسراء : 19 ] وقال أبو الأسود :

ترجو النجاة ولم تسلك مسالكها *** إن السفينة لا تجري على اليبس

وهذا يرجع إلى قاعدة التعاون على إقامة المصالح وإماتة المفاسد . وفي الحديث : « رحم الله والداً أعان ولده على بره » . وهذا الحديث ضعيف السند لكنه صحيح المعنى لأن بر الوالدين مطلوب ، فالإِعانة عليه إعانة على وجود المعروف والخير .

وابتدىء بأزواج النبي صلى الله عليه وسلم وبناته لأنهن أكمل النساء ، فذكرهن من ذكر بعض أفراد العام للاهتمام به .

والنساء : اسم جمع للمرأة لا مفرد له من لفظه ، وقد تقدم آنفاً عند قوله تعالى : { ولا نسائهن } [ الأحزاب : 55 ] . فليس المراد بالنساء هنا أزواج المؤمنين بل المراد الإِناث المؤمنات ، وإضافته إلى المؤمنين على معنى ( من ) أي النساء من المؤمنين .

والجلابيب : جمع جلباب وهو ثوب أصغر من الرداء وأكبر من الخمار والقِناع ، تضعه المرأة على رأسها فيتدلى جانباه على عذارَيْها وينسدل سائره على كتفها وظهرها ، تلبسه عند الخروج والسفر .

وهيئات لبس الجلابيب مختلفة باختلاف أحوال النساء تبينها العادات . والمقصود هو ما دل عليه قوله تعالى : { ذلك أدنى أن يعرفن فلا يؤذين } .

والإِدناء : التقريب ، وهو كناية عن اللبس والوضع ، أي يضعن عليهن جلابيبهن ، قال بشار :

ليلةٌ تَلبَس البياض من الشهر *** وأخرى تُدني جلابيبَ سودا

فقابل ب ( تُدني ) ( تلبَس ) فالإِدناء هنا اللبس .

وكان لبس الجلباب من شعار الحرائر فكانت الإِماء لا يلبسن الجلابيب . وكانت الحرائر يلبسن الجلابيب عند الخروج إلى الزيارات ونحوها فكُنَّ لا يلبسْنَها في الليل وعند الخروج إلى المناصع ، وما كنّ يخرجن إليها إلا ليلاً فأمرن بلبس الجلابيب في كل خروج ليعرف أنهن حرائر فلا يتعرض إليهن شباب الدُّعّار يحسبهن إماء أو يتعرض إليهن المنافقون استخفافاً بهن بالأقوال التي تخجلهن فيتأذيْنَ من ذلك وربما يسببْن الذين يؤذونهن فيحصل أذى من الجانبين . فهذا من سدّ الذريعة .

والإِشارة ب { ذلك } إلى الإدناء المفهوم من { يدنين } ، أي ذلك اللباس أقرب إلى أن يُعرف أنهن حرائر بشعار الحرائر فيتجنب الرجال إيذاءهن فيسلموا وتسلمن . وكان عمر بن الخطاب مدة خلافته يمنع الإِماء من التقنع كي لا يلتبسن بالحرائر ويضرب من تتقنّع منهن بالدّرة ثم زال ذلك بعده ، فذلك قول كثير :

هنّ الحرائر لا ربات أخمرة *** سود المحاجر لا يقرأن بالسور

والتذييل بقوله : { وكان الله غفوراً رحيماً } صفح عما سبق من أذى الحرائر قبل تنبيه الناس إلى هذا الأدب الإِسلامي ، والتذييل يقتضي انتهاء الغرض .