محاسن التأويل للقاسمي - القاسمي  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلنَّبِيُّ قُل لِّأَزۡوَٰجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَآءِ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ يُدۡنِينَ عَلَيۡهِنَّ مِن جَلَٰبِيبِهِنَّۚ ذَٰلِكَ أَدۡنَىٰٓ أَن يُعۡرَفۡنَ فَلَا يُؤۡذَيۡنَۗ وَكَانَ ٱللَّهُ غَفُورٗا رَّحِيمٗا} (59)

ولما بين تعالى سوء حال المؤذين ، زجرا لهم عن الإيذاء ، أمر النبي عليه الصلاة والسلام ، بأن يأمر بعض المتأذين منهم ، بما يدفع إيذاءهم في الجملة من الستر والتميز ، عن مواقع الإيذاء بقوله سبحانه :

{ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاء الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلَابِيبِهِنَّ } جمع ( جلباب ) كسرداب ، وهو الرداء فوق الخمار ، تتغطى به المرأة . وهو معنى قول بعضهم : جلبابها ملاءتها تشتمل بها .

وقيل هو الخمار . قالت {[6237]} جنوب أخت عمرو ذي الكلب ترثيه :

تمشي النسور إليه وهي لاهية *** مشي العذارى ، عليهن الجلاليب .

وقال آخر {[6238]} يصف الشيب :

حتى اكتسى الرأس قناعا أشهبا *** أكره جلباب لمن تجلببا

وقال الزمخشري : الجلباب ثوب واسع ، أوسع من الخمار ، ودون الرداء . تلويه المرأة على رأسها ويبقى منه ما ترسله على صدرها . وعن ابن عباس رضي الله عنهما : الرداء الذي يستر من فوق إلى أسفل . ثم قال : ومعنى : { يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلَابِيبِهِنَّ } يرخينها عليهن ويغطين بها وجوههن وأعطافهن . يقال إذا زل عن وجه المرأة : أدني ثوبك على وجهك . وذلك أن النساء كن في أول الإسلام على هجيراهن في الجاهلية متبذلات ، تبرزه المرأة في درع وخمار ، لا فصل بين الحرة والأمة . وكان الفتيان وأهل الشطارة {[6239]} يتعرضون للإماء إذا خرجن بالليل ، إلى مقاضي حوائجهن في النخيل والغيظان . وربما تعرضوا للحرة بعلة الأمة . يقولون حسبناها أمة . فأمرن أن يخالفن بزيهن عن زي الإماء ، بلبس الأردية والملاحف وستر الرءوس والوجوه ليحتشمن ويهبن ، فلا يطمع فيهن طامع ، وذلك قوله { ذَلِكَ أَدْنَى أَن يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ } أي أولى وأجدر بأن يعرفن أنهن حرائر ، فلا يتعرض لهن ولا يلقين ما يكرهن ثم قال الزمخشري : فإن قلت : ما معنى : { من } في { من جلابيبهن } قلت : هو للتبعيض إلا أن معنى التبعيض محتمل وجهين : أحدهما – أن يتجلببن ببعض ما لهن من الجلاليب . والمراد أن لا تكون الحرة متبذلة في درع وخمار كالأمة والماهنة ، ولها جلبابان فصاعدا في بيتها ، والثاني – أن ترخي المرأة بعض جلبابها وفضله على وجهها ، لتتقنع حتى تتميز من الأمة . انتهى .

ومن الآثار في الآية ، ما رواه الطبري {[6240]} عن ابن عباس قال : ( أمر الله نساء المؤمنين إذا خرجن من بيوتهن في حاجة ، أن يغطين وجوههن من فوق رؤوسهن بالجلاليب ، ويبدين عينا واحدة ) . وأخرج ابن أبي حاتم عن أم سلمة قالت : ( لما نزلت هذه الآية : { يدنين عليهن من جلابيبهن } خرج نساء الأنصار كأن على رؤوسهن الغربان ، من السكينة . وعليهن أكسية سود يلبسنها ) . وأخرج عن يونس بن يزيد أنه سأل الزهري : هل على الوليدة خمار ، متزوجة أو غير متزوجة ؟ قال : عليها الخمار إن كانت متزوجة ، وتنهى عن الجلباب . لأنه يكره لهن أن يشبهن بالحرائر المحصنات .

تنبيهات :

الأول – قال ابن كثير : روي عن سفيان الثوري أنه قال : ( لا بأس بالنظر إلى زينة نساء أهل الذمة . وإنما نهي عن ذلك لخوف الفتنة ، لا لحرمتهن . واستدل بقوله تعالى : { ونساء المؤمنين } ) . انتهى .

الثاني – قال السبكي في ( طبقاته ) : استنبط أحمد بن عيسى ، من فقهاء الشافعية ، من هذه الآية أن ما يفعله العلماء والسادات ، من تغيير لباسهم وعمائمهم ، أمر حسن . وإن لم يفعله السلف . لأن فيه تمييزا لهم حتى يعرفوا ، فيعمل بأقوالهم . انتهى .

الثالث – قال الشهاب : قوله تعالى : { يدنين } يحتمل أن يكون مقول القول . وهو خبر بمعنى الأمر ، أو جواب الأمر ، على حد {[6241]} : { قل لعبادي الذين آمنوا يقيموا الصلاة } انتهى { وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا } أي لما سلف منهن من التفريط { رَّحِيمًا } أي بعباده ، حيث يراعي مصالحهم حتى الجزئيات منها .


[6237]:استشهد في اللسان بالصفحة رقم 272 من المجلد الأول (طبعة بيروت).
[6238]:استشهد في اللسان بالصفحة رقم 273 من المجلد الأول (طبعة بيروت).
[6239]:الشاطر: من أعيى أهله ومؤدبه خبثا ومكرا. مولدة، كما في القاموس وشرحه.
[6240]:انظر الصفحة رقم 46 من الجزء الثاني والعشرين (طبعة الحلبي الثانية).
[6241]:(14 / إبراهيم / 31).