فتح البيان في مقاصد القرآن للقنوجي - صديق حسن خان  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلنَّبِيُّ قُل لِّأَزۡوَٰجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَآءِ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ يُدۡنِينَ عَلَيۡهِنَّ مِن جَلَٰبِيبِهِنَّۚ ذَٰلِكَ أَدۡنَىٰٓ أَن يُعۡرَفۡنَ فَلَا يُؤۡذَيۡنَۗ وَكَانَ ٱللَّهُ غَفُورٗا رَّحِيمٗا} (59)

{ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاء الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلابِيبِهِنَّ } جمع جلباب وهو ثوب أكبر من الخمار ، وهو الملاءة التي تشتمل بها المرأة فوق الدرع والخمار ، قال الجوهري : لجلباب الملحفة ، قال الشهاب إزار واسع يلتحف به ، وقيل : القناع وقيل : هو كل ثوب يستر جميع بدن المرأة من كساء وغير كما ثبت في الصحيح من حديث أم عطية أنها قالت يا رسول الله إحدانا لا يكون لها جلباب ؟ فقال : ( لتلبسها أختها من جلبابها ) قال الواحدي قال المفسرون : يغطين وجوههن ورؤوسهن إلا عينا واحدة فيعلم أنهن حرائر فلا يعرض لهن بأذى ، وبه قال ابن عباس ، وقال الحسن : تغطي نصف وجهها ، وقال قتادة : تلويه فوق الجبين وتشده ، ثم تعطفه على الأنف وإن ظهرت عيناها لكنه يستر الصدر ومعظم الوجه ، وقال المبرد : يرخينها عليهن ويغطين بها وجوههن وأعطافهن ، و ( من ) للتبعيض أي ترخي بعض جلبابها وفضله على وجهها تتقنع حتى تتميز عن الأمة .

{ ذَلِكَ } أي إدناء الجلابيب وهو مبتدأ وخبره { أَدْنَى } أقرب { أَن يُعْرَفْنَ } فيتميزن عن الإماء ويظهر للناس أنهن حرائر { فَلا يُؤْذَيْنَ } من جهة أهل الريبة بالتعرض لهن مراقبة لهن ولأهلهن ، وليس المراد بقوله ذلك الخ أن تعرف الواحدة منهن من هي ، بل المراد أن يعرفن أنهن حرائر لا إماء لأنهن لبسن لبسة تختص بالحرائر .

قال السبكي : في الطبقات الكبرى إن من أئمة الشافعية أحمد بن عيسى شارح التنبيه استنبط من هذه الآية أن ما يفعله علماء هذا الزمان في ملابسهم من سعة الأكمام والعمة ولبس الطيلسان حسن ، وإن لم يفعله السلف ، لأن فيه تمييزا لهم ، وبذلك يعرفون فيلتفت إلى فتاواهم وأقوالهم انتهى . ومنه يعلم أن تمييز الأشراف بعلامة أمر مشروع أيضا انتهى .

أقول ما أبرد هذا الاستنباط وما أقل نفعه ، لا سيما بعد ما ورد في السنة المطهرة من النهي عن الإسراف في اللباس وإطالته ، وقد منع عن ذلك سلف الأمة وأئمتها فأين هذا من ذاك ؟ وإنما هو بدعة أحدثها علماء السوء ومشايخ الدنيا ولذا قال علي القاري في معرض الذم : ( لهم عمائم كالأبراج ، وكمائم كالأخراج ) وأنكر عليهم ذلك أشد الإنكار ، وما ذكره من أن زي العلماء والأشراف سنة رده ابن الحاج في المدخل بأنه مخالف لزيهم في زمن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وزمن الخلفاء الراشدين ومن بعدهم من خير القرون ، فإن قيل إنهم به يعرفون ، قيل إنهم لو بقوا على الزي الأول عرفوا به أيضا لمخالفته لما عليه غيرهم الآن وأطال في إنكار ما قالوه ، وقد بسطنا القول على ذلك في حجج الكرامة بالفارسية أيضا فراجعه .

{ وَكَانَ اللهُ غَفُورًا } لما سلف من ترك إدناء الجلابيب { رَّحِيمًا } بهن أو غفورا لذنوب المذنبين رحيما بهم ، فيدخل في ذلك دخولا أوليا .

وقد أخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن عائشة قالت : خرجت سودة بعدما ضرب الحجاب لحاجتها وكانت امرأة جسيمة لا تخفى على من يعرفها ، فرآها عمر فقال : يا سودة أما والله ما يخفين علينا فانظري كيف تخرجين . قالت : فانكفأت راجعة ورسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) في بيتي ، وإنه ليتعشى ، وفي يده عرق ، فدخلت وقالت : يا رسول الله إني خرجت لبعض حاجتي فقال عمر : كذا وكذا فأوحى إليه ثم رفع عنه وإن العرق في يده ما وضعه فقال إنه قد أذن لكن أن تخرجن لحاجتكن .

وعن أبي مالك قال : كان نساء النبي ( صلى الله عليه وسلم ) يخرجن لحاجتهن بالليل وكان ناس من المنافقين يتعرضون لهن فيؤبن فقيل ذلك للمنافقين فقالوا : إنما نفعله بالإماء فنزلت هذه الآية : { يا أيها النبي قل لأزواجك } الآية .

وعن محمد بن كعب القرظي قال : كان رجل من المنافقين يتعرض لنساء المؤمنين يؤذيهن فإذا قيل له قال كنت أحسبها أمة ، فأمرهن الله أن يخالفن زي الإماء ويدنين عليهن من جلابيبهن ، تخمر وجهها إلا إحدى عينيها ذلك أدنى أن يعرفن فلا يؤذين ، يقول ذلك أحرى أن يعرفن .

وعن ابن عباس في هذه الآية قال : أمر الله نساء المؤمنين إذا خرجن من بيوتهن في حاجة أن يغطين وجوههن من فوق رؤوسهن بالجلابيب ، ويبدين عينا واحدة ، وعن أم سلمة قالت : لما نزلت هذه الآية يدنين عليهن من جلابيبهن خرج نساء الأنصار كأن على رؤوسهن الغربان من السكينة ، وعليهن أكسية سود يلبسنها هكذا في الرواية بلفظ : من السكينة ، وليس لها معنى فإن المراد تشبيه الأكسية السود الغربان لا أن المراد وصفهن بالسكينة كما يقال : كأن على رؤوسهن الطير .

وعن عائشة قالت : رحم الله نساء الأنصار لما نزلت { يا أيها النبي قل لأزواجك } الآية شققن مروطهن فاعتجرن بها فصلين خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم كأن على رؤوسهن الغربان .

وعن ابن عباس في الآية قال : كانت الحرة تلبس لباس الأمة فأمر الله نساء المؤمنين أن يدنين عليهن من جلابيبهن وإدناء الجلباب أن تقنع وتشده على جبينها .

قال أنس : مرت بعمر بن الخطاب جارية متنقبة فعلاها بالدرة وقال يا لكاع تتشبهين بالحرائر ألقي القناع ، قلت : ولكاع كلمة تقال لمن يستحقر به مثل العبد ، والأمة ، والخامل ، والقليل العقل ، مثل قولك : يا خسيس ، وذلك أن النساء في أول الإسلام على هاجراتهن في الجاهلية متبذلات ، تبرز المرأة في درع وخمار لا فصل بين الحرة والأمة .

وكان الفتيان يتعرضون إذا خرجن بالليل لقضاء حوائجهن في النخيل والغيمان – للإماء ، وربما تعرضوا للحرة لحسبان الأمة فأمرن أن يخالفن بزيهن عن زي الإماء بلبس الملاحف وستر الرؤوس والوجوه ، فلا يطمع فيهن طامع .