يقول [ تبارك و ]{[11559]} تعالى : { وَالْوَزْن } أي : للأعمال{[11560]} يوم القيامة { الْحَق } أي : لا يظلم تعالى أحدا ، كما قال تعالى : { وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ } [ الأنبياء : 47 ] وقال تعالى : { إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا } [ النساء : 40 ] وقال تعالى : { فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ * وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ * نَارٌ حَامِيَةٌ } [ القارعة : 6 - 11 ] وقال تعالى : { فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَسَاءَلُونَ * فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ } [ المؤمنون : 101 - 103 ] .
والذي يوضع في الميزان يوم القيامة{[11561]} قيل : الأعمال وإن كانت أعراضًا ، إلا أن الله تعالى يقلبها يوم القيامة أجساما .
قال البغوي : يروى هذا عن ابن عباس{[11562]} كما جاء في الصحيح من أن " البقرة " و " آل عمران " يأتيان{[11563]} يوم القيامة كأنهما غمامتان - أو : غيَايَتان - أو فِرْقَان من طير صَوَافّ . من ذلك في الصحيح قصة القرآن وأنه يأتي صاحبه في صورة شاب شاحب اللَّون ، فيقول : من أنت ؟ فيقول : أنا القرآن الذي أسهرت ليلك وأظمأت نهارك{[11564]} وفي حديث البراء ، في قصة سؤال القبر : " فيأتي المؤمن شابٌّ حسن اللون طيّب الريح ، فيقول : من أنت ؟ فيقول : أنا عملك الصالح " {[11565]} وذكر عكسه في شأن الكافر والمنافق .
وقيل : يوزن كتاب الأعمال ، كما جاء في حديث البطاقة ، في الرجل الذي يؤتى به ويوضع له في كِفَّة تسعة وتسعون سجلا كل سِجِلّ مَدّ البصر ، ثم يؤتى بتلك البطاقة فيها : " لا إله إلا الله " فيقول : يا رب ، وما هذه البطاقة مع هذه السجلات ؟ فيقول الله تعالى : إنك لا تُظلَم . فتوضع تلك البطاقة في كفة الميزان . قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " فَطاشَت السجلات ، وثَقُلَتِ البطاقة " .
رواه الترمذي بنحو من هذا{[11566]} وصححه .
وقيل : يوزن صاحب العمل ، كما في الحديث : " يُؤتَى يوم القيامة بالرجل السَّمِين ، فلا يَزِن عند الله جَنَاح بَعُوضَة " {[11567]} ثم قرأ : { فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا } [ الكهف : 105 ] .
وفي مناقب عبد الله بن مسعود أن رسول الله صلى عليه وسلم قال : " أتعجبون من دِقَّة ساقَيْهِ ، فوالذي{[11568]} نفسي بيده لهما في الميزان أثقل من أُحُدٍ " {[11569]}
وقد يمكن الجمع بين هذه الآثار بأن يكون ذلك كله صحيحا ، فتارة{[11570]} توزن الأعمال ، وتارة توزن محالها ، وتارة يوزن فاعلها ، والله أعلم .
{ الوزن } مصدر وزن يزن ، ورفعه بالابتداء و { الحق } خبره ، و { يومئذ } ظرف منتصب ب { الوزن } ويصح أن يكون { يؤمئذ } خبر الابتداء ، و { الحق } نعت ل { الوزن } والتقدير : الوزن الحق ثابت أو ظاهر يومئذ ، و { يومئذ } إشارة إلى يوم القيامة ، والفصل بين الخلائق ، واختلف الناس في معنى الوزن والموازين فقالت فرقة : إن الله عز وجل أراد أن يعلم عباده أن الحساب والنظر يوم القيامة هو في غاية التحرير ونهاية العدل فمثل لهم في ذلك بالوزن والميزان إذ لا يعرف البشر أمراً أكثر تحريراً منه ، فاستعير للعدل وتحرير النظر لفظة الوزن والميزان كما استعار ذلك أبو طالب في قوله :
بميزان قسط لا يخس شعيرة*** له حاكم من نفسه غير عائل
وروي هذا القول عن مجاهد والضحاك وغيرهما ، وكذلك استعير- على قولهم- الثقل والخفة لكثرة الحسنات وقلتها .
وقال جمهور الأمة : إن الله عز وجل أراد أن يعرض لعباده يوم القيامة تحرير النظر وغاية العدل بأمر قد عرفوه في الدنيا وعهدته أفهامهم ، فميزان القيامة له عمود وكفّتان على هيئة موازين الدنيا ، قال حذيفة بن اليمان رضي الله عنه : " صاحب الموازين يوم القيامة جبريل عليه السلام " ، وقالوا : هذا الذي اقتضاه لفظ القرآن ولم يرده نظر .
قال القاضي أبو محمد : وهذا القول أصح من الأول من جهات ، أولها أن ظواهر كتاب الله عز وجل تقتضيه وحديث الرسول عليه السلام ينطق به ، من ذلك : قوله لبعض الصحابة وقد قال له يا رسول الله أين أجدك في القيامة ؟ فقال «اطلبني عند الحوض فإن لم تجدني فعند الميزان » ، ولو لم يكن الميزان مرئياً محسوساً لما أحاله رسول الله صلى الله عليه وسلم على الطلب عنده ، وجهة أخرى أن النظر في الميزان والوزن والثقل والخفة المقترنات بالحساب لا يفسد شيء منه ولا تختل صحته ، وإذا كان الأمر كذلك فلم نخرج من حقيقة اللفظ إلى مجازه دون علة ؟ وجهة ثالثة وهي أن القول في الميزان هو من عقائد الشرع الذي لم يعرف إلا سمعاً ، وإن فتحنا فيه باب المجاز غمرتنا أقوال الملحدة والزنادقة في أن الميزان والصراط والجنة والنار والحشر ونحو ذلك إنما هي ألفاظ يراد بها غير الظاهر .
قال القاضي أبو محمد : فينبغي أن يجري في هذه الألفاظ إلى حملها على حقائقها ، وأما «الثقل » و «الخفة » فإن الآثار تظاهرت بأن صحائف الحسنات والسيئات توضع في كفتي الميزان فيحدث الله في الجهة التي يريد ثقلاً وخفة على نحو إحداثه ذلك في جسم رسول الله صلى الله عليه وسلم في وقت نزول الوحي عليه ، ففي الصحيح من حديث زيد بن ثابت أنه قال : كنت أكتب حتى نزلت { غير أولي الضرر } وفخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم على فخذي حتى كادت أن ترض فخذي ، وفي الحديث أنه كان إذا أوحي إليه وهو على ناقته بركت به عجزاً عن حمله لثقل الحادث فيه ، ولا بد لنا أن نعلم أن الثقل الحادث مع الحسنات إنما يتعلق بجسم ، إذ العرض لا يقول بالعرض ، فجائز أن يحدث الثقل في الصحائف وهو أقربها إلى الظن ، وجائز أن يحدث في ذلك من الأجسام المجاورة لتلك الحال ، وإلى حدوثه في الصحائف ذهب أبو المعالي ، ورويت في خبر الميزان آثار عن صحابة وتابعين في هيئته وطوله وأحواله لم تصح بالإسناد ، فلم نر للإطالة بها وجهاً ، وقال الحسن فيما روي عنه : بلغني أن لكل أحد يوم القيامة ميزاناً على حدة .
قال القاضي أبو محمد : وهذا قول مردود الناس على خلافه ، وإنما لكل أحد وزن يختص به والميزان واحد ، وروي عن مجاهد في قوله { ثقلت موازينه } أن «الموازين » الحسنات نفسها .
قال القاضي أبو محمد : وجمع لفظ «الموازين » إذ في الميزان موزونات كثيرة فكأنه أراد التنبيه عليها بجمعه لفظ الميزان . و { المفلحون } في اللغة المدركون لبغيتهم الناجحون في طلبهم ومنه قول عبيد : [ الرجز ]
أفلحْ بما شئت فقد يبلغ بالضع*** ف وقد يُخْدَعُ الأريبُ
. . . . . . . . . . . . . . . . . .
****** *** والمسْي والصبح لا فلاح معهْ
قال القاضي أبو محمد : والبقاء بلوغ بغية فالمعنيان متقاربان ، ووزن الله تعالى أعمال العباد مع علمه بدقائق الأشياء وجلائلها نظير كتبه أعمالهم في صحائفهم واستنساخه ذلك ونظير استنطاقه جوارحهم بالشهادة عليهم إقامة للحجة وإيضاحاً ، فقد تقرر في الشرع أن كلمة التوحيد ترجح ميزان من وزنت في أعماله ولا بد ، فإن قال قائل كيف تثقل موازين العصاة من المؤمنين بالتوحيد ويصح لهم حكم الفلاح ثم تدخل طائفة منهم النار وذلك شقاء لا محالة ؟ فقالت طائفة إنه توزن أعمالهم دون التوحيد فتخف الحسنات فيدخلون النار ثم عند إخراجهم يوزن التوحيد فتثقل الحسنات فيدخلون الجنة ، وأيضاً فمعرفة العاصي أنه غير مخلد فلاح وإن تقدمه شقاء على جهة التأديب .
عطف جملة : { والوزن يومئذٍ الحق } على جملة { فلنقصن } [ الأعراف : 7 ] ، لما تضمّنته المعطوف عليها من العلم بحسنات النّاس وسيّئاتهم ، فلا جرم أشعرت بأنّ مظهرَ ذلك العلم وأثَرَه هو الثّواب والعقاب ، وتفاوتُ درجات العاملين ودرَكاتهم تفاوتاً لا يُظلم العامل فيه مثقال ذرّة ، ولا يفوتُ ما يستحقّه إلاّ أن يتفضّل الله على أحدٍ برفع درجة أو مغفرة زلة لأجل سلامة قلب أو شفاعة أو نحو ذلك ، ممّا الله أعلم به مِن عبادِه ، فلذلك عقبت جملة : { فلنقصن } [ الأعراف : 7 ] بجملة : { والوزن يومئذٍ الحق } فكأنّه قيل : فلنقصنّ عليهم بعلم ولنُجَازِيَنَّهم على أعمالهم جزاء لا غبن فيه على أحد .
والتّنوين في قوله : { يومئذٍ } عوض عن مضاف إليه دلّ عليه : { فلنسألن الذين أرْسِلَ إليهم } [ الأعراف : 6 ] وما عطف عليه بالواو وبالفاء ، والتّقدير : يومَ إذ نسألهم ونسأل رُسلَهم ونقُص ذنوبهم عليهم .
والوزن حقيقته معادلة جسم بآخر لمعرفة ثقل أحد الجسمين أو كليهما في تعادلهما أو تفاوتهما في المقدار ، وإذ قد كان تساوي الجسمين الموزونين نادر الحصول تعيَّن جُعلت أجسام أخرى يُعرف بها مقدار التّفاوت ، فلا بد من آلة توضع فيها الأشياء ، وتسمّى الميزان ولها أشكال مختلفة شكلاً واتساعاً .
والأجسام التي تجعل لتعيين المقادير تُسمّى مَوازين ، وَاحِدُها ميزان أيضاً وتسمّى أوزاناً واحدها وَزْن ، ويطلق الوزن على معرفة مقدار حال في فضل ونحوِه قال تعالى : { فلا نقيم لهم يوم القيامة وزناً } [ الكهف : 105 ] وفي حديث أبي هريرة ، في « الصّحيحين » : " إنَّه ليؤتى بالعظيم السمين يومَ القيامة لا يَزن عند الله جَناح بعوضة " . ويستعار استعارة تمثيلية للتدبير في أحوال ، كقول الراعي :
وَزَنَتْ أميَّةُ أمْرَها فدَعَتْ له *** من لَمْ يكن غُمِراً ولا مَجهولاً
فالوزن في هذه الآية يراد به تعيين مقادير مَا تستحقّه الأعمال من الثّواب والعقاب تعييناً لا إجحاف فيه ، كتعيين الميزان على حسب ما عيّن الله من ثواب أو عقاب على الأعمال ، وذلك ممّا يعلمه الله تعالى : ككون العمل الصّالح لله وكونِه ريَاء ، وككون الجهاد لإعلاء كلمة الله أو كونِه لمجرّد الطمع في الغنيمة ، فيكون الجزاء على قدر العمل ، فالوزن استعارة ، ويجوز أن يراد به الحقيقة فقد قيل توضع الصحائف التي كتبتها الملائكة للأعمال في شيء خلقه الله ليجعله الله يوم القيامة ، ينطق أو يتكيّف بكيفيّةٍ فيدلّ على مقادير الأعمال لأربابها ، وذلك ممكن ، وقد وردت أخبار في صفة هذا الميزان لم يصحّ شيء منها .
والعِبارات في مثل هذا المقام قاصرة عن وصف الواقعات ، لأنّها من خوارق المتعارف ، فلا تعدُو العباراتُ فيها تقريبَ الحقائق وتمثيلها بأقصى ما تعارفه أهل اللّغة ، فما جاء منها بصيغة المصدر غيرَ متعلّق بفعل يقتضي آلة فحمْلُه على المجاز المشهور كقوله تعالى : { فلا نقيم لهم يوم القيامة وزناً } [ الكهف : 105 ] . وما جاء منها على صيغة الاسماء فهو محتمل مثل ما هنا لقوله : { فمن ثقلت موازينه } إلخ ومثل قول النّبيء صلى الله عليه وسلم « كلمتان خفيفتان على اللّسان ثقيلتان في الميزان » وما تعلّق بفعل مقتض آلة فحمله على التمثيل أو على مخلوق من أمور الآخرة مثل قوله تعالى : { ونضع الموازين القسط ليوم القيامة } [ الأنبياء : 47 ] . وقد ورد في السنّة ذكر الميزان في حديث البطاقة التي فيها كلمة شهادة الإسلام ، عند التّرمذي عن عبد الله بن عمرو بن العاص ، وحديث قول النّبي صلى الله عليه وسلم لأنس بن مالك : « فاطلبْني عند الميزان » خرّجه التّرمذي .
وقد اختلف السلف في وجود مخلوق يبيّن مقدار الجزاء من العمل يسمّى بالميزان توزن فيه الأعمال حقيقة ، فاثبت ذلك الجمهور ونفاه جماعة منهم الضحاك ومجاهد والأعمش ، وقالوا : هو القضاء السوي ، وقد تبع اختلافهم المتأخرون فذهب جمهور الأشاعرة وبعض المعتزلة إلى تفسير الجمهور ، وذهب بعض الأشاعرة المتأخرين وجمهورُ المعتزلة إلى ما ذهب إليه مجاهد والضحاك والأعمش ، والأمر هين ، والاستدلال ليس ببيِّن والمقصود المعنى وليس المقصود آلته .
والإخبار عن الوزن بقوله : { الحق } إن كان الوزن مجازاً عن تعيين مقادير الجزاء فالحق بمعنى العدل ، أي الجزاء عادل غير جائز ، لأنّه من أنواع القضاء والحكم ، وإن كان الوزن تمثيلاً بهيئة الميزان ، فالعدل بمعنى السوي ، أي والوزن يومئذ مساوٍ للأعمال لا يرجح ولا يحجف .
وعلى الوجهين فالإخبار عنه بالمصدر مبالغة في كونه محقاً .
وتفرع على كونه الحق قوله : { فمن ثقلت موازينه فأولئك هم المفلحون } ، فهو تفصيل للوزن ببيان أثره على قدر الموزون . ومحل التّفريع هو قوله : { فأولئك هم المفلحون } وقوله : فأولئك الذين خسروا أنفسهم إذ ذلك مفرّع على قوله : { فمن ثقلت موازينه } وقوله : ومن خفت موازينه .
وثقل الميزان في المعنى الحقيقي رجحان الميزان بالشّيء الموزون ، وهو هنا مستعار لاعتبار الأعمال الصّالحة غالبة ووافرة ، أي من ثقلت موازينه الصّالحات ، وإنّما لم يذكر ما ثقلت به الموازين لأنّه معلوم من اعتبار الوزن ، لأنّ متعارف النّاس أنّهم يزنون الأشياء المرغوب في شرائِها المتنافس في ضبط مقاديرها والتي يتغابن النّاس فيها .
والثّقل مع تلك الاستعارة هو أيضاً ترشيح لاستعارة الوزن للجزاء ، ثمّ الخفّة مستعارة لعدم الأعمال الصّالحة أخذاً بغاية الخفة على وزان عكس الثّقل ، وهي أيضاً ترشيح ثان لاستعارة الميزان ، والمراد هنا الخفّة الشّديدة وهي انعدام الأعمال الصّالحة لقوله : { بما كانوا بآياتنا يظلمون } . والفلاَح حُصول الخير وإدراك المطلوب .
والتّعريف في { المفلحون } للجنس أو العهد وقد تقدّم في قوله تعالى : { وأولئك هم المفلحون } في سورة البقرة ( 5 ) .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
ومعنى الكلام:"والوزن" يوم نسأل الذين أُرسل إليهم والمرسلين "الحقّ". ويعني بالحقّ: العدل. وكان مجاهد يقول: الوزن في هذا الموضع: القضاء.
قوله: "والوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الحَقّ": توزن الأعمال.
واختلف أهل التأويل في تأويل قوله: "فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ"؛ فقال بعضهم: معناه: فمن كثرت حسناته.
وقال آخرون: معنى ذلك: فمن ثقلت موازينه التي توزن بها حسناته وسيئاته، قالوا: وذلك هو الميزان الذي يعرفه الناس، له لسان وكفتان.
والصواب من القول في ذلك عندي... أن ذلك: هو الميزان المعروف الذي يوزن به، وأن الله جلّ ثناؤه يزن أعمال خلقه الحسنات منها والسيئات، كما قال جلّ ثناؤه: "فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ "موازين عمله الصالح. "فَأُولَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ" يقول: فأولئك هم الذين ظفروا بالنجاح وأدركوا الفوز بالطلبات، والخلود والبقاء في الجنات، لتظاهر الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم...
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
و (الحق): وضع الشيء موضعه على وجه تقتضيه الحكمة.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{والوزن يَوْمَئِذٍ الحق} يعني وزن الأعمال والتمييز بين راجحها وخفيفها. واختلف في كيفية الوزن فقيل: توزن صحف الأعمال بميزان له لسان وكفتان، تنظر إليه الخلائق، تأكيداً للحجة، وإظهاراً للنصفة، وقطعاً للمعذرة، كما يسألهم عن أعمالهم فيعترفون بها بألسنتهم، وتشهد بها عليهم أيديهم وأرجلهم وجلودهم، وتشهد عليهم الأنبياء والملائكة والإشهاد، وكما تثبت في صحائفهم فيقرؤونها في موقف الحساب. وقيل: هي عبارة عن القضاء السويّ والحكم العادل. {فَمَن ثَقُلَتْ موازينه} جمع ميزان أو موزون، أي فمن رجحت أعماله الموزونة التي لها وزن وقدر وهي الحسنات. أو ما توزن به حسناتهم. وعن الحسن: وحق لميزان توضع فيه الحسنات أن يثقل، وحق لميزان توضع فيه السيئات أن يخف.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
...التقدير: الوزن الحق ثابت أو ظاهر يومئذ، و {يومئذ} إشارة إلى يوم القيامة، والفصل بين الخلائق، واختلف الناس في معنى الوزن والموازين؛ فقالت فرقة: إن الله عز وجل أراد أن يعلم عباده أن الحساب والنظر يوم القيامة هو في غاية التحرير ونهاية العدل فمثل لهم في ذلك بالوزن والميزان إذ لا يعرف البشر أمراً أكثر تحريراً منه، فاستعير للعدل وتحرير النظر لفظة الوزن والميزان... وكذلك استعير- على قولهم- الثقل والخفة لكثرة الحسنات وقلتها.
وقال جمهور الأمة: إن الله عز وجل أراد أن يعرض لعباده يوم القيامة تحرير النظر وغاية العدل بأمر قد عرفوه في الدنيا وعهدته أفهامهم، فميزان القيامة له عمود وكفّتان على هيئة موازين الدنيا... وقالوا: هذا الذي اقتضاه لفظ القرآن ولم يرده نظر.
وهذا القول أصح من الأول من جهات، أولها أن ظواهر كتاب الله عز وجل تقتضيه وحديث الرسول عليه السلام ينطق به، من ذلك: قوله لبعض الصحابة وقد قال له يا رسول الله أين أجدك في القيامة؟ فقال «اطلبني عند الحوض فإن لم تجدني فعند الميزان»، ولو لم يكن الميزان مرئياً محسوساً لما أحاله رسول الله صلى الله عليه وسلم على الطلب عنده، وجهة أخرى أن النظر في الميزان والوزن والثقل والخفة المقترنات بالحساب لا يفسد شيء منه ولا تختل صحته، وإذا كان الأمر كذلك فلم نخرج من حقيقة اللفظ إلى مجازه دون علة؟... فينبغي أن يجري في هذه الألفاظ إلى حملها على حقائقها.
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
ولما كان الجزاء على حسب الأعمال وهي متفاوتة تنضبط وتقدر بالوزن وإقامة الميزان قال عز وجل:
{وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقّ} قال الراغب: الوزن: معرفة قدر الشيء يقال وزنته وزنا وزنة والمتعارف في الوزن عند العامة ما يقدر بالقسط والقبان،اه. وتفسيره الوزن بالمعرفة تساهل وإنما هو عمل يراد به تعرف مقدار الشيء بالآلة التي تسمى الميزان وهو مشتق منه، وبالقسطاس وهو من القسط ومعناه النصيب العادل أو بالعدل كما قال الراغب، وأطلق على العدل مجازا وكذا الميزان ومنه قوله تعالى: {هو الذي أنزل عليك الكتاب} (آل عمران 7) {بالحق والميزان} (الشورى 17) وقوله في الرسل كافة {وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم للناس بالقسط} (الحديد 25) ومن كلام العرب استقام ميزان النهار إذا انتصف وليس لفلان وزن أي قدر لخسته ومنه قوله تعالى: {فلا نقيم لهم يوم القيامة وزنا} (الكهف 105) قال الراغب وقوله: {والوزن يومئذ الحق} (الأعراف 8) فإشارة إلى العدل في محاسبة الناس كما قال: {ونضع الموازين القسط ليوم القيامة} (الأنبياء 47) أي ولذلك قال عقبه {فلا تظلم نفس شيئا وإن كان مثقال حبة من خردل أتينا بها وكفى بنا حاسبين} (الأنبياء 47) والتجوز بالوزن والميزان في الشعر كثير.
ومعنى الجملة: والوزن في ذلك اليوم الذي يسأل الله فيه الرسل والأمم ويقص عليهم كل ما كان منهم هو الحق الذي تحق به الأمور وتعرف به حقيقة كل أحد وما يستحقه من الثواب والعقاب. وذهب أكثر علماء الإعراب إلى أن المعنى أن الوزن الحق كائن يومئذ لا أن الوزن يومئذ حق. فالحق صفة للوزن ويومئذ هو الخبر عنه أو المعنى والوزن كائن يومئذ وهو الحق، [و] الأول أظهر.
{فَمَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} قيل إن الموازين جمع ميزان فهي متعددة لكل امرئ ميزان وقيل لكل عمل. والجمهور على أن الميزان واحد وأنه يجمع باعتبار المحاسبين وهم الناس أو على حد قول العرب: سافر فلان على البغال وإن ركب بغلا واحدا، وقيل إن الموازين جمع موزون والمعنى فمن رجحت موازين أعماله بالإيمان وكثرة حسناته فأولئك هم الفائزون بالنجاة من العذاب والنعيم في دار الثواب.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
(والوزن يومئذ الحق).. إنه لا مجال هنا للمغالطة في الوزن؛ ولا التلبيس في الحكم؛ ولا الجدل الذي يذهب بصحة الأحكام والموازين.. (فمن ثقلت موازينه فأولئك هم المفلحون).. فقد ثقلت في ميزان الله الذي يزن بالحق. وجزاؤها إذن هو الفلاح.. وأي فلاح بعد النجاة من النار، والعودة إلى الجنة، في نهاية الرحلة المديدة، وفي ختام المطاف الطويل؟...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
والوزن حقيقته معادلة جسم بآخر لمعرفة ثقل أحد الجسمين أو كليهما في تعادلهما أو تفاوتهما في المقدار، وقد وردت أخبار في صفة هذا الميزان لم يصحّ شيء منها. والعِبارات في مثل هذا المقام قاصرة عن وصف الواقعات، لأنّها من خوارق المتعارف، فلا تعدُو العباراتُ فيها تقريبَ الحقائق وتمثيلها بأقصى ما تعارفه أهل اللّغة...وقد ورد في السنّة ذكر الميزان في حديث البطاقة التي فيها كلمة شهادة الإسلام، عند التّرمذي عن عبد الله بن عمرو بن العاص، وحديث قول النّبي صلى الله عليه وسلم لأنس بن مالك: « فاطلبْني عند الميزان» خرّجه التّرمذي... والإخبار عن الوزن بقوله: {الحق} إن كان الوزن مجازاً عن تعيين مقادير الجزاء فالحق بمعنى العدل، أي الجزاء عادل غير جائز، لأنّه من أنواع القضاء والحكم، وإن كان الوزن تمثيلاً بهيئة الميزان، فالعدل بمعنى السوي، أي والوزن يومئذ مساوٍ للأعمال لا يرجح ولا يجحف. وعلى الوجهين فالإخبار عنه بالمصدر مبالغة في كونه محقاً. وتفرع على كونه الحق قوله: {فمن ثقلت موازينه فأولئك هم المفلحون}، فهو تفصيل للوزن ببيان أثره على قدر الموزون. ومحل التّفريع هو قوله: {فأولئك هم المفلحون} وقوله: فأولئك الذين خسروا أنفسهم إذ ذلك مفرّع على قوله: {فمن ثقلت موازينه} وقوله: ومن خفت موازينه. وثقل الميزان في المعنى الحقيقي رجحان الميزان بالشّيء الموزون، وهو هنا مستعار لاعتبار الأعمال الصّالحة غالبة ووافرة، أي من ثقلت موازينه الصّالحات، وإنّما لم يذكر ما ثقلت به الموازين لأنّه معلوم من اعتبار الوزن، لأنّ متعارف النّاس أنّهم يزنون الأشياء المرغوب في شرائِها المتنافس في ضبط مقاديرها والتي يتغابن النّاس فيها.
والميزان الحق هو الذي قامت عليه عدالة الكون كله، وكل شيء فيه موزون، وسبحانه هو الذي يضع المقادير على قدر الحكمة والإتقان والدقة التي يؤدي بها كل كائن المطلوبَ منه، ولذلك يقول سبحانه: {والسماء رفعها ووضع الميزان 7} (سورة الرحمن). ولم نر السماء قذفت وألقت علينا أحداثا غير متوقعة منها، فالكون له نظام دقيق. والوزن في يوم القيامة هو مطلق الحق، ففي هذا اليوم تبطل موازين الأرض التي كانت تعاني إما خللا في الآلة التي توزن بها، وإما خللا في الوزن، وإما أن تتأثر بأحداث الكون، وما يجري فيه من تفاعلات، أما ميزان السماء فلا دخل لأحد به ولا يتأثر إلا بقيمة ما عمل الإنسان...