الوزن مبتدأ ، وفي الخبر وجهان :
أحدهما : هو الظَّرْف أي : الوزن كائن أو مستقرٌّ يومئذٍ أي : يوم إذ يُسْألُ الرُّسُلُ والمرسلُ إليهم . فحذف الجملة المضاف إليها " إذْ " وعوَّض منها التَّنْوين ، هذا مذهب الجُمْهُور خلافاً للأخْفَش . وفي " الحقّ " على هذا الوجه ثلاثة أوجه :
أحدها : أنه نَعْتٌ للوزن أي : الوزن الحق في ذلك اليوم .
الثاني : أنه خبر مبتدأ محذوفٍ كأنَّهُ جوابُ سؤالٍ مقدَّرٍ من قائل يقول : ما ذلك الوزن ؟ فقيل : هو الحقُّ لا البَاطِلُ .
الثالث : أنه بدلٌ من الضَّميرِ المستكن في الظَّرْفِ وهو غَرِيبٌ ذكره مَكِيٌّ .
والثاني : من وجهي الخبر أن يكون الخبر " الحق " ، و " يومئذ " على هذا فيه وجهان :
أحدهما : أنَّهُ منصوب على الظَّرْفِ ناصبه " الوَزْنْ " أي : يقع الوَزْنُ ذلك اليوم .
والثاني : أنَّهُ مفعول به على السَّعةِ وهذا الثاني ضعيفٌ جدّاً لا حَاجَةَ إليه .
ولمَّا ذَكَرَ أبُو البقاءِ{[15769]} كون " الحق " خبراً ، وجعل " يَوْمئذٍ " ظرفاً للوزن قال : " ولا يَجُوزُ على هذا أن يكون صِفَةً ، لَئِلاّ يلزم الفَصْلُ بين المَوصُولِ وصِلَتِهِ " .
قال شهابُ الدِّين{[15770]} : وأين الفَصْلُ ؟ فإن التركيبَ القرآنيَّ إنما جاء فيه " الحق " بعد تمام الموصول بصلته ، وإذا تمَّ الموصول بصلته جاز أن يُوصَفَ . تقول : " ضَرْبُكَ زَيْداً يَوْمَ الجُمْعَةِ الشديدُ حسنٌ " .
فالشَّديدُ صفة لِضَربِكَ . فإنْ تَوَهَّمَ كون الصِّفَةِ محلُّها أن تقع بعد الموصوف وتليه ، فَكَأنَّهَا مُقدَّمَةٌ في التَّقدير فَحَصَلَ الفَصْلُ تقديراً فإن هذا لا يُلْتَفَتْ إليه ؛ لأنَّ تلك المعمولات من تَتِمَّةِ الموصول فلم تل إلاَّ الموصول وعلى تقدير اعتقاد ذلك له ، فالمَانِعُ من ذلك أيضاً صيرورةُ المبتدأ بلا خبر ، لأنَّكَ إذا جعلت " يَومئذٍ " ظرَفْاً للوزن و " الحقُّ " صفته فأين خبره ؟ فهذا لو سَلِمَ من المانع الذي ذكره كان فيه هذا المانع الآخر .
وقد طوَّلَ مكيٌّ بذكر تقدير " الحقّ " على " يومئذ " وتأخيره عنهُ باعتبار الإعرابات المتقدمة ، وهذا لا حَاجَةَ إليه لأنَّا مقيَّدُونَ في القرآن بالإتيان بِنَظْمِهِ . وذكر أيضاً أنه يجوز نصبه ، يعني أنَّهُ لو قُرِىءَ به لكان جَائِزاً ، وهذا أيضاً لا حاجة إليه .
قوله : " مَوَازِيْنُهُ " فيها قولان :
أحدهما : أنَّها جمع ميزان : الآلة [ التي ] يوزنُ بها ، وإنَّمَا جمع ؛ لأن كلَّ إنسانٍ له ميزان يخصُّه على ما جاء في التَّفْسير ، أو جُمع باعتبار الأعمال الكثيرة وعبّر عن هذا الحال بالمحل .
والثاني : أنَّها جمع موزون ، وهي الأعمال ، والجمع حينئذٍ ظاهر . قيل : إِنَّمَا جمع الميزان ههنا ، وفي قوله : { وَنَضَعُ الموازين القسط لِيَوْمِ القيامة } [ الأنبياء : 47 ] ؛ لأنَّه لا يبعد أن يكون لأفعال القلوب ميزانٌ ، ولأفعال الجوارح ميزانٌ ، ولما يتعلق بالقول ميزان .
وقال الزَّجَّاجُ{[15771]} : إنَّمَا جمع الموازين ههنا لوجهين :
الأوَّلُ : أنَّ العرب قد تُوقِعُ لَفْظَ الجَمْعِ على الواحد فيقولون : خرج فلان إلى مَكَّةَ راكباً البِغَالَ .
والثاني : أن الموازين ههنا جمع موزون لا جمع ميزان .
قال القرطبيُّ{[15772]} : والموازين جمع ميزان وأصلُهُ : " مِوْزَانٌ " قلبت الواوُ ياءٌ لكسرة ما قبلها .
قال مُجَاهِدٌ والأعْمَشُ والضَّحَّاكُ : المراد بالميزان العدل والقضاء{[15773]} ، وذهب إلى هذا القول كثيرٌ من المُتأخِّرينَ قالوا : لأنَّ لَفْظَ الوزن على هذا المعنى شَائِعٌ في اللُّغَةِ ؛ لأن العدل في الأخذ والإعطاء لا يظهر إلاَّ بالكَيْل ، والوزن في الدُّنْيَا ، فلم يبعد جعل الوزن كِنَايَةً عن العَدْلِ ، ويؤيِّدُ ذلك أنَّ الرَّجُلَ إذا لم يكن له قَدْرٌ ولا قِيمَةٌ عند غيره يقال : إنَّ فُلاناً لا يقيم لفلان وَزْناً . قال تعالى : { فَلاَ نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ القيامة وَزْناً } [ الكهف : 105 ] ، ويُقَالُ هذا الكلامُ في وزن هذا وفي وزانه ، أي : يعادله ويُسَاويه مع أنَّهُ ليس هناك وَزْنٌ في الحَقيقَةِ ؛ قال الشَّاعِرُ : [ الكامل ]
قَدْ كُنْتُ عِنْدَ لِقَائِكُمْ ذَا قُوَّةٍ *** عِنْدِي لِكُلِّ مُخَاصِمٍ ميزَانُهُ{[15774]}
أيْ عندي لكل مخاصم كلامٌ يعادل كلامه ، فجعل الوزن مثلاً للعدل وإذا ثبت هذا فَنَقُولُ : المُرَادُ من الآية هذا المعنى فقط ، والدَّلِيلُ عليه أنَّ الميزانَ إنَّما يراد ليتوصل به إلى مَعْرِفَةِ مقدار الشيء ، ومقاديرُ الثواب والعِقَابِ لا يمكن إظْهَارُهَا بالميزان ؛ لأن أعْمَالَ العِبَادِ أعْرَاضٌ ، وهي قد فنِيَتْ وعُدِمَتْ ، ووزن المعدوم مُحَالٌ ، وأيضاً فبتقدير بِقَائِهَا كان وزنها محالاً{[15775]} .
وأُجيب بأنَّ فائدته أنَّ جميع المكلفين يعلمون يَوْمَ القيامة أنَّهُ تعالى مُنَزَّهٌ عن الظُّلْم والجَوْرِ . وفائدةُ وضع الميزانِ أنْ يظهر ذلك الرُّجْحَانُ لأهل المَوْقِفِ ، لإإن رجحت الحسنات ازداد فَرَحُهُ وسُرُورُهُ ، وإنْ كان بالضِّدِّ فيزداد غمُّه .
وقال القُرْطُبِيُّ{[15776]} : " الصَّحيحُ أنَّ المراد بالميزان وزن أعمال العباد " .
فإن قيل : الموزون صَحَائِفُ الأعْمَالِ ، أو صور مخلوقة على حَسْبِ مقَاديرِ الأعْمالِ .
فنقول : إنَّ الملكف يوم القيامة إمَّا أن يكون مقراً بأنَّ الله - تعالى - عَادِلٌ حَكِيمٌ ، أو لا يكون مقرّاً بذلك فإن كان مقرّاً بذلك فحينئذ كفاه حكم اللَّه تعالى بمقادير الثَّواب والعقاب في علمه بأنه عَدْلٌ وصوابٌ ، وإنْ لم يكن مُقِرّاً بذلك لم يعرف من رجحان كفَّةِ الحسنات على كفَّةِ السيِّئات أو بالعَكْس من حُصُولِ الرُّجْحَانِ لا على سبيل العَدْلِ والإنْصافِ ، فثبتَ أنَّ هذا الوَزْنَ لا فَائِدَةَ فيه ألْبَتَّةَ{[15777]} وقال أكْثَرُ المفسرين : أرَادَ وزن الأعْمَالِ بالميزان ، وذلك أنَّ الله - تعالى - ينصب ميزاناً له لسان يوزن بها أعمال العباد خيرها وشرها وكفتان ، كل كَفَّةٍ بِقَدْرِ ما بين المَشْرِقِ المَغْرِبِ .
واختلفوا في كَيْفيَّةِ الوَزْنِ ، فقال بعضهم : توزن صحائف الأعمال .
وروي أنَّ رَجُلاً ينشر عليه تسعة وتسعون سِجلاً ، كل سِجِّلٍّ منها مدُّ البَصَرِ فيها خطاياه وذنوبه فتوضع في كفَّة الميزان ثم يخرج له بِطَاقَةٌ فيها شهادةُ أن لا إله إلا الله ، وأشهد أنَّ محمّداً عبده ورسوله ، فتوضع السِّجلات في كفه ، والبطاقة في كفَّة فطاشت السِّجلات وثقلت البطاقة .
روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : " لَيَأتي الرَّجُلُ العَظِيمُ السَّمِينُ يَوْمَ القِيَامةِ فلا يَزِنُ عِنْدَ اللَّهِ جَنَاحَ بَعُوضَةٍ " {[15778]} .
وقيل : توزن الأعمال . رُوِيَ ذلك ابْنِ عبَّاسٍ - رضي الله عنهما - فيؤتى بالأعْمَالِ الحَسَنَةِ على صُورةٍ حَسَنةٍ ، وبالأعمال السيِّئَةِ على صورة قَبِيحَة ، فتوضع في الميزانِ .
والحكمة في وَزْنِ الأعْمَالِ امتحان اللَّه عباده بالإيمان به في الدُّنْيَا ، وإقامة الحُجَّةِ عليهم في العقبى{[15779]} .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.