اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{وَٱلۡوَزۡنُ يَوۡمَئِذٍ ٱلۡحَقُّۚ فَمَن ثَقُلَتۡ مَوَٰزِينُهُۥ فَأُوْلَـٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡمُفۡلِحُونَ} (8)

الوزن مبتدأ ، وفي الخبر وجهان :

أحدهما : هو الظَّرْف أي : الوزن كائن أو مستقرٌّ يومئذٍ أي : يوم إذ يُسْألُ الرُّسُلُ والمرسلُ إليهم . فحذف الجملة المضاف إليها " إذْ " وعوَّض منها التَّنْوين ، هذا مذهب الجُمْهُور خلافاً للأخْفَش . وفي " الحقّ " على هذا الوجه ثلاثة أوجه :

أحدها : أنه نَعْتٌ للوزن أي : الوزن الحق في ذلك اليوم .

الثاني : أنه خبر مبتدأ محذوفٍ كأنَّهُ جوابُ سؤالٍ مقدَّرٍ من قائل يقول : ما ذلك الوزن ؟ فقيل : هو الحقُّ لا البَاطِلُ .

الثالث : أنه بدلٌ من الضَّميرِ المستكن في الظَّرْفِ وهو غَرِيبٌ ذكره مَكِيٌّ .

والثاني : من وجهي الخبر أن يكون الخبر " الحق " ، و " يومئذ " على هذا فيه وجهان :

أحدهما : أنَّهُ منصوب على الظَّرْفِ ناصبه " الوَزْنْ " أي : يقع الوَزْنُ ذلك اليوم .

والثاني : أنَّهُ مفعول به على السَّعةِ وهذا الثاني ضعيفٌ جدّاً لا حَاجَةَ إليه .

ولمَّا ذَكَرَ أبُو البقاءِ{[15769]} كون " الحق " خبراً ، وجعل " يَوْمئذٍ " ظرفاً للوزن قال : " ولا يَجُوزُ على هذا أن يكون صِفَةً ، لَئِلاّ يلزم الفَصْلُ بين المَوصُولِ وصِلَتِهِ " .

قال شهابُ الدِّين{[15770]} : وأين الفَصْلُ ؟ فإن التركيبَ القرآنيَّ إنما جاء فيه " الحق " بعد تمام الموصول بصلته ، وإذا تمَّ الموصول بصلته جاز أن يُوصَفَ . تقول : " ضَرْبُكَ زَيْداً يَوْمَ الجُمْعَةِ الشديدُ حسنٌ " .

فالشَّديدُ صفة لِضَربِكَ . فإنْ تَوَهَّمَ كون الصِّفَةِ محلُّها أن تقع بعد الموصوف وتليه ، فَكَأنَّهَا مُقدَّمَةٌ في التَّقدير فَحَصَلَ الفَصْلُ تقديراً فإن هذا لا يُلْتَفَتْ إليه ؛ لأنَّ تلك المعمولات من تَتِمَّةِ الموصول فلم تل إلاَّ الموصول وعلى تقدير اعتقاد ذلك له ، فالمَانِعُ من ذلك أيضاً صيرورةُ المبتدأ بلا خبر ، لأنَّكَ إذا جعلت " يَومئذٍ " ظرَفْاً للوزن و " الحقُّ " صفته فأين خبره ؟ فهذا لو سَلِمَ من المانع الذي ذكره كان فيه هذا المانع الآخر .

وقد طوَّلَ مكيٌّ بذكر تقدير " الحقّ " على " يومئذ " وتأخيره عنهُ باعتبار الإعرابات المتقدمة ، وهذا لا حَاجَةَ إليه لأنَّا مقيَّدُونَ في القرآن بالإتيان بِنَظْمِهِ . وذكر أيضاً أنه يجوز نصبه ، يعني أنَّهُ لو قُرِىءَ به لكان جَائِزاً ، وهذا أيضاً لا حاجة إليه .

قوله : " مَوَازِيْنُهُ " فيها قولان :

أحدهما : أنَّها جمع ميزان : الآلة [ التي ] يوزنُ بها ، وإنَّمَا جمع ؛ لأن كلَّ إنسانٍ له ميزان يخصُّه على ما جاء في التَّفْسير ، أو جُمع باعتبار الأعمال الكثيرة وعبّر عن هذا الحال بالمحل .

والثاني : أنَّها جمع موزون ، وهي الأعمال ، والجمع حينئذٍ ظاهر . قيل : إِنَّمَا جمع الميزان ههنا ، وفي قوله : { وَنَضَعُ الموازين القسط لِيَوْمِ القيامة } [ الأنبياء : 47 ] ؛ لأنَّه لا يبعد أن يكون لأفعال القلوب ميزانٌ ، ولأفعال الجوارح ميزانٌ ، ولما يتعلق بالقول ميزان .

وقال الزَّجَّاجُ{[15771]} : إنَّمَا جمع الموازين ههنا لوجهين :

الأوَّلُ : أنَّ العرب قد تُوقِعُ لَفْظَ الجَمْعِ على الواحد فيقولون : خرج فلان إلى مَكَّةَ راكباً البِغَالَ .

والثاني : أن الموازين ههنا جمع موزون لا جمع ميزان .

قال القرطبيُّ{[15772]} : والموازين جمع ميزان وأصلُهُ : " مِوْزَانٌ " قلبت الواوُ ياءٌ لكسرة ما قبلها .

فصل في المراد بالميزان

قال مُجَاهِدٌ والأعْمَشُ والضَّحَّاكُ : المراد بالميزان العدل والقضاء{[15773]} ، وذهب إلى هذا القول كثيرٌ من المُتأخِّرينَ قالوا : لأنَّ لَفْظَ الوزن على هذا المعنى شَائِعٌ في اللُّغَةِ ؛ لأن العدل في الأخذ والإعطاء لا يظهر إلاَّ بالكَيْل ، والوزن في الدُّنْيَا ، فلم يبعد جعل الوزن كِنَايَةً عن العَدْلِ ، ويؤيِّدُ ذلك أنَّ الرَّجُلَ إذا لم يكن له قَدْرٌ ولا قِيمَةٌ عند غيره يقال : إنَّ فُلاناً لا يقيم لفلان وَزْناً . قال تعالى : { فَلاَ نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ القيامة وَزْناً } [ الكهف : 105 ] ، ويُقَالُ هذا الكلامُ في وزن هذا وفي وزانه ، أي : يعادله ويُسَاويه مع أنَّهُ ليس هناك وَزْنٌ في الحَقيقَةِ ؛ قال الشَّاعِرُ : [ الكامل ]

قَدْ كُنْتُ عِنْدَ لِقَائِكُمْ ذَا قُوَّةٍ *** عِنْدِي لِكُلِّ مُخَاصِمٍ ميزَانُهُ{[15774]}

أيْ عندي لكل مخاصم كلامٌ يعادل كلامه ، فجعل الوزن مثلاً للعدل وإذا ثبت هذا فَنَقُولُ : المُرَادُ من الآية هذا المعنى فقط ، والدَّلِيلُ عليه أنَّ الميزانَ إنَّما يراد ليتوصل به إلى مَعْرِفَةِ مقدار الشيء ، ومقاديرُ الثواب والعِقَابِ لا يمكن إظْهَارُهَا بالميزان ؛ لأن أعْمَالَ العِبَادِ أعْرَاضٌ ، وهي قد فنِيَتْ وعُدِمَتْ ، ووزن المعدوم مُحَالٌ ، وأيضاً فبتقدير بِقَائِهَا كان وزنها محالاً{[15775]} .

وأُجيب بأنَّ فائدته أنَّ جميع المكلفين يعلمون يَوْمَ القيامة أنَّهُ تعالى مُنَزَّهٌ عن الظُّلْم والجَوْرِ . وفائدةُ وضع الميزانِ أنْ يظهر ذلك الرُّجْحَانُ لأهل المَوْقِفِ ، لإإن رجحت الحسنات ازداد فَرَحُهُ وسُرُورُهُ ، وإنْ كان بالضِّدِّ فيزداد غمُّه .

وقال القُرْطُبِيُّ{[15776]} : " الصَّحيحُ أنَّ المراد بالميزان وزن أعمال العباد " .

فإن قيل : الموزون صَحَائِفُ الأعْمَالِ ، أو صور مخلوقة على حَسْبِ مقَاديرِ الأعْمالِ .

فنقول : إنَّ الملكف يوم القيامة إمَّا أن يكون مقراً بأنَّ الله - تعالى - عَادِلٌ حَكِيمٌ ، أو لا يكون مقرّاً بذلك فإن كان مقرّاً بذلك فحينئذ كفاه حكم اللَّه تعالى بمقادير الثَّواب والعقاب في علمه بأنه عَدْلٌ وصوابٌ ، وإنْ لم يكن مُقِرّاً بذلك لم يعرف من رجحان كفَّةِ الحسنات على كفَّةِ السيِّئات أو بالعَكْس من حُصُولِ الرُّجْحَانِ لا على سبيل العَدْلِ والإنْصافِ ، فثبتَ أنَّ هذا الوَزْنَ لا فَائِدَةَ فيه ألْبَتَّةَ{[15777]} وقال أكْثَرُ المفسرين : أرَادَ وزن الأعْمَالِ بالميزان ، وذلك أنَّ الله - تعالى - ينصب ميزاناً له لسان يوزن بها أعمال العباد خيرها وشرها وكفتان ، كل كَفَّةٍ بِقَدْرِ ما بين المَشْرِقِ المَغْرِبِ .

واختلفوا في كَيْفيَّةِ الوَزْنِ ، فقال بعضهم : توزن صحائف الأعمال .

وروي أنَّ رَجُلاً ينشر عليه تسعة وتسعون سِجلاً ، كل سِجِّلٍّ منها مدُّ البَصَرِ فيها خطاياه وذنوبه فتوضع في كفَّة الميزان ثم يخرج له بِطَاقَةٌ فيها شهادةُ أن لا إله إلا الله ، وأشهد أنَّ محمّداً عبده ورسوله ، فتوضع السِّجلات في كفه ، والبطاقة في كفَّة فطاشت السِّجلات وثقلت البطاقة .

وقيل : توزن الأشخاص .

روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : " لَيَأتي الرَّجُلُ العَظِيمُ السَّمِينُ يَوْمَ القِيَامةِ فلا يَزِنُ عِنْدَ اللَّهِ جَنَاحَ بَعُوضَةٍ " {[15778]} .

وقيل : توزن الأعمال . رُوِيَ ذلك ابْنِ عبَّاسٍ - رضي الله عنهما - فيؤتى بالأعْمَالِ الحَسَنَةِ على صُورةٍ حَسَنةٍ ، وبالأعمال السيِّئَةِ على صورة قَبِيحَة ، فتوضع في الميزانِ .

والحكمة في وَزْنِ الأعْمَالِ امتحان اللَّه عباده بالإيمان به في الدُّنْيَا ، وإقامة الحُجَّةِ عليهم في العقبى{[15779]} .


[15769]:ينظر: الإملاء 1/269.
[15770]:ينظر: الدر المصون 3/236.
[15771]:ينظر: تفسير الفخر الرازي 14/23.
[15772]:ينظر: تفسير القرطبي 7/108.
[15773]:ذكره الفخر الرازي في "التفسير الكبير" 14/22.
[15774]:ينظر: اللسان (وزن)، والقرطبي 17/58، والرازي 14/22.
[15775]:ينظر: الفخر الرازي 14/23.
[15776]:ينظر: تفسير القرطبي 7/107.
[15777]:ينظر: تفسير الرازي 14/23.
[15778]:متفق عليه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، أخرجه البخاري في الصحيح 8/426، كتاب التفسير سورة الكهف: باب {أولئك الذين كفروا بآيات ربهم ولقائه فحبطت أعمالهم} الحديث (4729) ومسلم في الصحيح 4/2147، كتاب صفة القيامة والجنة والنار الحديث 18/2785).
[15779]:انظر: تفسير الرازي 14/22.