فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير للشوكاني - الشوكاني  
{وَٱلۡوَزۡنُ يَوۡمَئِذٍ ٱلۡحَقُّۚ فَمَن ثَقُلَتۡ مَوَٰزِينُهُۥ فَأُوْلَـٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡمُفۡلِحُونَ} (8)

قوله : { والوزن يَوْمَئِذٍ الحق } الوزن مبتدأ وخبره الحق ، أي الوزن في هذا اليوم العدل الذي لا جور فيه ، أو الخبر يومئذ ، والحق وصف للمبتدأ ، أي الوزن العدل كائن في هذا اليوم وقيل : إن الحق خبر مبتدأ محذوف .

واختلف أهل العلم في كيفية هذا الوزن الكائن في هذا اليوم ، فقيل : المراد به وزن صحائف أعمال العباد بالميزان وزناً حقيقياً ، وهذا هو الصحيح ، وهو الذي قامت عليه الأدلة ؛ وقيل : توزن نفس الأعمال ، وإن كانت أعراضاً فإن الله يقلبها يوم القيامة أجساماً كما جاء في الخبر الصحيح : «إن البقرة وآل عمران يأتيان يوم القيامة كأنهما غمامتان أو غيايتان أو فِرْقان من طير صوافّ » وكذلك ثبت في الصحيح أنه يأتي القرآن في صورة شاب شاحب اللون ونحو ذلك . وقيل : الميزان الكتاب الذي فيه أعمال الخلق . وقيل : الوزن والميزان بمعنى العدل والقضاء ، وذكرهما من باب ضرب المثل ، كما تقول هذا الكلام في وزن هذا . قال الزجاج : هذا سائغ من جهة اللسان ، والأولى أن نتبع ما جاء في الأسانيد الصحاح من ذكر الميزان . قال القشيري : وقد أحسن الزجاج فيما قال ، إذ لو حمل الصراط على الدين الحق ، والجنة والنار على ما يرد على الأرواح دون الأجساد ، والشياطين والجنّ على الأخلاق المذمومة ، والملائكة على القوى المحمودة ، ثم قال : وقد أجمعت الأمة في الصدر الأوّل على الأخذ بهذه الظواهر من غير تأويل ، وإذا أجمعوا على منع التأويل وجب الأخذ بالظاهر ، صارت هذه الظواهر نصوصاً انتهى . والحق هو : القول الأوّل .

وأما المستبعدون لحمل هذه الظواهر على حقائقها فما يأتون في استبعادهم بشيء من الشرع يرجع إليه ، بل غاية ما تشبثوا به مجرد الاستبعادات العقلية ، وليس في ذلك حجة على أحد ، فهذا إذا لم تقبله عقولهم ، فقد قبلته عقول قوم هي أقوى من عقولهم من الصحابة والتابعين وتابعيهم ، حتى جاءت البدع كالليل المظلم وقال : كل ما شاء ، وتركوا الشرع خلف ظهورهم وليتهم جاءوا بأحكام عقلية يتفق العقلاء عليها ، ويتحد قبولهم لها ، بل كل فريق يدعى على العقل ما يطابق هواه ، ويوافق ما يذهب إليه هو أو من هو تابع له ، فتتناقض عقولهم على حسب ما تناقضت مذاهبهم ، يعرف هذا كل منصف ، ومن أنكره فليصفّ فهمه وعقله عن شوائب التعصب والتمذهب ، فإنه إن فعل ذلك أسفر الصبح لعينيه .

وقد ورد ذكر الوزن والموازين في مواضع من القرآن كقوله : { وَنَضَعُ الموازين القسط لِيَوْمِ القيامة فَلاَ تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً } ، وقوله : { فَإِذَا نُفِخَ فِي الصور فَلاَ أنساب بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلاَ يَتَسَاءلُونَ } ، وقوله : { فَمَن ثَقُلَتْ موازينه فَأُوْلَئِكَ هُمُ المفلحون وَمَنْ خَفَّتْ موازينه فأُوْلَئِكَ الذين خَسِرُواْ أَنفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خالدون } ، وقوله : { إِنَّ الله لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ } ، وقوله : { فَأَمَّا مَن ثَقُلَتْ موازينه فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ موازينه فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ } .

والفاء في { فَمَن ثَقُلَتْ موازينه } للتفصيل . والموازين : جمع ميزان ، وأصله موزان قلبت الواو ياء لكسر ما قبلها ، وثقل الموازين هذا يكون بثقل ما وضع فيها من صحائف الأعمال . وقيل : إن الموازين جمع موزون ، أي فمن رجحت أعماله الموزونة ، والأوّل : أولى . وظاهر جمع الموازين المضافة إلى العامل أن لكل واحد من العاملين موازين يوزن بكل واحد منها صنف من أعماله . وقيل : وهو ميزان واحد عبر عنه بلفظ الجمع كما يقال : خرج فلان إلى مكة على البغال ، والإشارة بقوله : { فَأُوْلَئِكَ } إلى من ، والجمع باعتبار معناه كما رجع إليه ضمير { موازينه } باعتبار لفظه هو مبتدأ خبره { هُمْ المفلحون } .

/خ18