يخبر تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم بأن هؤلاء المنافقين ليسوا أهلا للاستغفار ، وأنه لو استغفر لهم ، ولو سبعين مرة فإن الله لا يغفر لهم .
وقد قيل : إن السبعين إنما ذكرت حسما لمادة الاستغفار لهم ؛ لأن العرب في أساليب كلامها تذكر السبعين في مبالغة كلامها ، ولا تريد التحديد بها ، ولا أن يكون ما زاد عليها بخلافها .
وقيل : بل لها مفهوم ، كما روى العوفي عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لما نزلت هذه الآية : " أسمع ربي قد رخص لي فيهم ، فوالله لأستغفرن أكثر من سبعين مرة ، لعل الله أن يغفر لهم ! فقال الله من شدة غضبه عليهم : { سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ } [ المنافقون : 6 ]
وقال الشعبي : لما ثَقُل عبد الله بن أبي ، انطلق ابنه إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : إن أبي قد احتضر ، فأحب أن تشهده وتصلي عليه . فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " ما اسمك " . قال الحباب بن عبد الله . قال : " بل أنت عبد الله بن عبد الله ، إن الحباب اسم شيطان " . قال : فانطلق معه حتى شهده وألبسه قميصه وهو عرق ، وصلى عليه ، فقيل له : أتصلي عليه [ وهو منافق ]{[13716]} ؟ قال : " إن الله قال : { إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً } ولأستغفرن له سبعين وسبعين وسبعين " .
وكذا روي عن عُرْوَة بن الزبير ومجاهد بن جُبَير ، وقتادة بن دِعَامة . رواها ابن جرير بأسانيده .
وقوله تعالى { استغفر لهم أو لا تستغفر لهم } يحتمل معنيين ، أحدهما أن يكون لفظ أمر ومعناه الشرط ، بمعنى إن استغفرت أو لم تستغفر لهم لن يغفر الله لهم ، فيكون مثل قوله تعالى : { قل أنفقوا طوعاً أو كرهاً لن يتقبل منكم }{[5802]} وبمنزلة قول الشاعر : [ الكثير ]
أسيئي لنا أو أحسني لا ملومة*** لدينا ولا مقلية إن تقلت{[5803]}
وإلى هذا المعنى ذهب الطبري وغيره في معنى الآية ، والمعنى الثاني الذي يحتمله اللفظ أن يكون تخييراً ، كأنه قال له : إن شئت فاستغفر وإن شئت لا تستغفر ثم أعلمه أنه لا يغفر لهم وإن استغفر { سبعين مرة } وهذا هو الصحيح لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم وتبيينه ذلك .
وذلك أن عمر بن الخطاب سمعه بعد نزول هذه الآية يستغفر لهم فقال يا رسول الله ، أتستغفر للمنافقين وقد أعلمك الله أنه لا يغفر لهم ، فقال له «يا عمر إن الله قد خيرني فاخترت ، ولو علمت أني إذا زدت على السبعين يغفر لهم لزدت »{[5804]} ، ونحو هذا من مقاولة عمر في وقت إرادة النبي صلى الله عليه وسلم الصلاة على عبد الله بن أبي ابن سلول ، وظاهر صلاته عليه أن كفره لم يكن يقيناً عنده ، ومحال أن يصلي على كافر ، ولكنه راعى ظواهره من الإقرار ووكل سريرته إلى الله عز وجل ، وعلى هذا كان ستر المنافقين من أجل عدم التعيين بالكفر .
وفي هذه الألفاظ التي لرسول الله صلى الله عليه وسلم رفض إلزام دليل الخطاب ، وذلك أن دليل الخطاب يقتضي أن الزيادة على السبعين يغفر معها فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ولو علمت فجعل ذلك مما لا يعلمه ، ومما ينبغي أن يتعلم ويطلب علمه من الله عز وجل ، ففي هذا حجة عظيمة للقول برفض دليل الخطاب ، وإذا ترتب كما قلنا التخيير في هذه الآية صح أن ذلك التخيير هو الذي نسخ بقوله تعالى : في سورة المنافقون
{ سواء عليهم استغفرت لهم أم لم تستغفر لهم لن يغفر الله لهم إن الله لا يهدي القوم الفاسقين }{[5805]} ولمالك رحمه الله مسائل تقتضي القول بدليل الخطاب ، منها قوله : إن المدرك للتشهد وحده لا تلزمه أحكام الإمام لأن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : «من أدرك ركعة من الصلاة فقد أدرك الصلاة »{[5806]} فاقتضى دليل الخطاب أن من لم يدرك ركعة فليس بمدرك ، وله مسائل تقتضي رفض دليل الخطاب ، منها قول النبي صلى الله عليه وسلم ، «وفي سائمة الغنم الزكاة »{[5807]} فدليل الخطاب أن لا زكاة في غير السائمة ، ومالك يرى الزكاة في غير السائمة ، ومنها أن الله عز وجل يقول في الصيد { من قتله منكم متعمداً }{[5808]} فقال مالك : حكم المخطىء والمتعمد سواء ودليل الخطاب يقتضي غير هذا ، وأما تمثيله «السبعين » دون غيرها من الأعداد فلأنه عدد كثيراً ما يجيء غاية وتحقيقاً في الكثرة ، ألا ترى إلى القوم الذين اختارهم موسى وإلى أصحاب العقبة وقد قال بعض اللغويين إن التصريف الذي يكون من السين والباء والعين فهو شديد الأمر ، من ذلك السبعة فإنها عدد مقنع هي في السماوات وفي الأرض وفي خلق الإنسان وفي رزقه وفي أعضائه التي بها يطيع الله وبها يعصيه ، وبها ترتيب أبواب جهنم فيما ذكر بعض الناس ، وهي{[5809]} عيناه وأذناه ولسانه وبطنه وفرجه ويداه ورجلاه ، وفي سهام الميسر وفي الأقاليم وغير ذلك .
ومن ذلك السبع والعبوس والعنبس ونحو هذا من القول{[5810]} ، وقوله { ذلك } إشارة إلى امتناع الغفران ، وقوله : { والله لا يهدي القوم الفاسقين } إما من حيث هم فاسقون ، وإما أنه لفظ عموم يراد به الخصوص فيمن يوافي على كفره .
هذا استئناف ابتدائي ليس متصلاً بالكلام السابق ، وإنّما كان نزوله لسبب حدث في أحوال المنافقين المحكية بالآيات السالفة ، فكان من جملة شرح أحوالهم وأحكامهم ، وفي الآية ما يدلّ على أنّ النبي صلى الله عليه وسلم كان يستغفر لهم .
روى المفسّرون عن ابن عباس أنّه لمّا نزلت بعض الآيات السابقة في أحوالهم إلى قوله : { سخر الله منهم ولهم عذاب أليم } [ التوبة : 79 ] . قال فريق منهم : استغفر لنا يا رسول الله ، أي ممّن صدر منه عمل وبِّخُوا عليه في القرآن دون تصريح بأنّ فاعله منافق فوعدهم النبي عليه الصلاة والسلام بأن يستغفر للذين سألوه . وقال الحسن : كانوا يأتون رسول الله فيعتذرون إليه ، ويقولون : إن أردْنا إلاّ الحسنى . وذلك في معنى الاستغفار ، أي طلب مَحْو مَا عُدّ عليهم أنّه ذنب ، يريدون أنّه استغفار من ظاهر إيهام أفعالهم . وعن الأصمّ أنّ عبد الله بنَ أُبي بن سَلول لمّا ظهر ما ظهر من نفاقه وتنكّر الناس له من كلّ جهة لقيه رجل من قومه فقال له : ارجع إلى رسول الله يستغفر لك ، فقال : ما أبالي استغفر لي أم لم يستغفر لي . فنزل فيه قوله تعالى في سورة المنافقين ( 5 ، 6 ) : { وإذا قيل لهم تعالَوا يستغفر لكم رسولُ الله لَوَوْا رُؤُوسَهم ورأيتَهم يَصُدُّون وهم مستكبرون سواءٌ عليهم أسْتَغْفَرْتَ لهم أم لم تستغفر لهم لَن يغفرَ الله لهم } يعني فتكون هذه الآية مؤكّدةً لآية سورة المنافقين عند حدوث مثل السبب الذي نزلت فيه آية سورة المنافقين جمعاً بين الروايات .
وعن الشعبي ، وعروة ، ومجاهد ، وابن جبير ، وقتادة أنّ عبد الله بن أُبَيْ بن سلول مرض فسألَ ابنُه عبدُ الله بنُ عبد الله النبي أن يستغفر له ففعل . فنزلت . فقال النبي إنّ الله قد رخَّص لي فسأزيدُ على السبعين فنزلت { سواء عليهم أستغفرت لهم أم لم تستغفر لهم لن يغفر الله لهم } [ المنافقون : 6 ] .
والذي يظهر لي أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم لمّا أوحي إليه بآية سورة المنافقين ، وفيها أنّ استغفاره وعدمه سواء في حقّهم . تأوَّلَ ذلك على الاستغفار غيرِ المؤكّد وبعثته رحمته بالناس وحرصه على هداهم وتكدّره من اعْتراضهم عن الإيمانِ أن يستغفر للمنافقين استغفاراً مكرّراً مؤكّداً عسى أن يغفر الله لهم ويزول عنهم غضبه تعالى فيهديهم إلى الإيمان الحقّ . بما أنّ مخالطتهم لأحوال الإيمان ولو في ظاهر الحال قد يجرّ إلى تعلّق هديه بقلوبهم بأقلّ سبب ، فيكون نزول هذه الآية تأيِيساً من رضى الله عنهم ، أي عن البقية الباقية منهم تأييساً لهم ولمن كان على شاكلتهم ممّن اطّلع على دخائلهم فاغتبط بحالهم بأنّهم انتفعوا بصحبة المسلمين والكفار ، فالآية تأييس من غير تعيين .
وصيغة الأمر في قوله : { استغفر } مستعملة في معنى التسوية المراد منها لازمها وهو عدم الحذر من الأمر المباح ، والمقصود من ذلك إفادة معنى التسوية التي تَرد صيغة الأمر لإفادتها كثيراً ، وعدَّ علماءُ أصول الفقه في معاني صيغة الأمر معنى التسوية ومثّلوه بقوله تعالى : { اصلوها فاصبروا أو لا تصبروا } [ الطور : 16 ] .
فأمَّا قوله : { أو لا تستغفر لهم } فموقعه غريب ولم يُعْنَ المفسّرون والمعرِبون ببيانه فإنّ كونه بعد { لا } مجزوماً يجعله في صورة النهي ، ومعنى النهي لا يستقيم في هذا المقام إذ لا يستعمل النهي في معنى التخيير والإباحة . فلا يتأتّى منه معنىً يعادل معنى التسوية التي استُعمل فيها الأمر . ولذلك لم نر علماء الأصول يذكرون التسوية في معاني صيغة النهي كما ذكروها في معاني صيغة الأمر .
إمّا أن تكون { لا } نافية ويكون جزم الفعل بعدها لكونه معطوفاً على فعل الأمر فإن فعل الأمر مجزوم بلام الأمر المقدرة على التحقيق وهو مذهب الكوفيين واختاره الأخفش من البصريين ، وابن هشام الأنصاري وأبو علي بن الأحوص ، شيخ أبي حيّان ، وهو الحقّ لأنّه لو كان مبنياً للزم حالةً واحدةً ، ولأنّ أحوال آخره جارية على أحوال علامات الجزم فلا يبعد أن يكون ذلك التقدير ملاحظاً في كلامهم فيعطف عليه بالجزم على التوهّم .
ولا يصح كون هذا من عطف الجمل لأنّه لا وجه لِجزم الفعل لو كان كذلك ، لا سيما والأمر مؤول بالخبر ، ثم إنّ ما أفاده حرف التخيير قد دلّ على تخيير المخاطب في أحد الأمرين مع انتفاء الفائدة على كليهما .
وإمّا أن تكون صيغة النهي استعملت لمعنى التسوية لأنّها قارنت الأمر الدالّ على إرادة التسوية ويكون المعنى : أمرك بالاستغفار لهم ونهيُك عنه سواء ، وذلك كناية عن كون الآمِر والناهي ليس بمغيِّر مراده فيهم سواء فُعل المأمور أو فُعل المنهي ويجوز أن يكون الفعلان معمولين لفعل قول محذوف . والتقدير : نقول لك : استغفر لهم ، أو نقول لا تستغفر لهم .
و { سبعين مرة } غير مراد به المقدارُ من العدد بل هذا الاسم من أسماء العدد التي تستعمل في معنى الكثرة . قال « الكشاف » : « السبعون جار مجرى المثل في كلامهم للتكثر » . ويدل له قول النبي صلى الله عليه وسلم " لو أعلم أنّي لو زدت على السبعين غُفر له لزدت " وهو ما رواه البخاري والترمذي من حديث عمر بن الخطاب . وأمّا ما رواه البخاري من حديث أنس بن عياض وأبي أسامة عن عبيد الله عن نافع عن ابن عمر أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال : " وسأزيد على السبعين " فهو توهم من الراوي لمنافاته روايةَ عمرَ بن الخطاب ، وروايةُ عمَر أرجح لأنّه صاحب القصّة ، ولأنّ تلك الزيادة لم تُرو من حديث يحيى بن سعيد عن عبيد الله عن نافع عن ابن عمر عند الترمذي وابن ماجة والنسائي .
وانتصب { سبعين مرة } على المفعولية المطلقة لبيان العدد . وتقدّم الكلام على لفظ مرّة عند قوله تعالى : { وهم بدأوكم أول مرة } في هذه السورة ( 13 ) .
وضمائر الغيبة راجعة إلى المنافقين الذين علم اللَّهُ نفاقهم وأعلم نبيئَه عليه الصلاة والسلام بهم . وكان المسلمون يحسبونهم مسلمين اغتراراً بظاهر حالهم . وكان النبي يُجري عليهم أحكام ظاهر حالهم بين عامّة المسلمين ، والقرآن ينعتهم بسيماهم كيلا يطمئنّ لهم المسلمون وليأخذوا الحذر منهم ، فبذلك قُضي حقّ المصالح كلّها .
ومن أجل هذا الجري على ظاهر الحال اختلف أسلوب التأييس من المغفرة بين ما في هذه الآية وبين ما في آية { ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين } [ التوبة : 113 ] لأنّ المشركين كفرُهم ظاهر فجاء النهي عن الاستغفار لهم صريحاً ، وكُفر المنافقين خفي فجاء التأييس من المغفزة لهم منوطاً بوصف يعلمونه في أنفسهم ويعلمه الرسول عليه الصلاة والسلام ولأجل هذا كان يستغفر لمن يسأله الاستغفار من المنافقين لئلا يكون امتناعه من الاستغفار له إعلاماً بباطن حاله الذي اقتضت حكمةُ الشريعة عدمَ كشفه . وقال في أبي طالب : « لأستغفرنّ لك ما لم أُنه عنك » فلمّا نهاه الله عن ذلك أمسك عن الاستغفار له .
وكان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي صلاة الجنازة على من مات من المنافقين لأنّ صلاة الجنازة من الاستغفار ولمّا مات عبدُ الله بن أبي بن سلول رأسُ المنافقين بعد نزول هذه الآية وسألَ ابنُه عبدُ الله بنُ عبد الله النبي صلى الله عليه وسلم أن يصلي عليه ، فصلّى عليه كرامة لابنه وقال عمر للنبيء صلى الله عليه وسلم قد نهاك ربك أن تصلي عليه ، قال له على سبيل الرد « إنّما خَيّرني الله » ، أي ليس في هذه الآية نهي عن الاستغفار ، فكان لصلاته عليهم واستغفاره لهم حكمة غير حصول المغفرة بل لمصالح أخرى ، ولعلّ النبي صلى الله عليه وسلم أخذ بأضعف الاحتمالين في صيغة { استغفر لهم أو لا تستغفر لهم } وكذلك في لفظ عدد { سبعين مرة } استقصاء لمظنّة الرحمة على نحو ما أصّلناه في المقدمة التاسعة من مقدّمات هذا التفسير .
والإشارةُ في قوله : { ذلك بأنهم كفروا } لانتفاء الغفران المستفاد من قوله : { فلن يغفر الله لهم } .
والباء للسببية ، وكفرهم بالله هو الشرك . وكفرهم برسوله جحدهم رسالته صلى الله عليه وسلم وفي هذه الآية دليل على أن جاحد نبوءة محمد صلى الله عليه وسلم يطلق عليه كافر .
ومعنى { والله لا يهدي القوم الفاسقين } أنّ الله لا يُقَدّر لهم الهدي إلى الإيمان لأجل فسقهم ، أي بُعدهِم عن التأمّل في أدلّة النبوءة ، وعن الإنصاف في الاعتراف بالحق فمن كان ذلك ديدنه طُبع على قلبه فلا يقبل الهُدى فمعنى { لا يهدي } لا يخلق الهُدى في قلوبهم .