مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{ٱسۡتَغۡفِرۡ لَهُمۡ أَوۡ لَا تَسۡتَغۡفِرۡ لَهُمۡ إِن تَسۡتَغۡفِرۡ لَهُمۡ سَبۡعِينَ مَرَّةٗ فَلَن يَغۡفِرَ ٱللَّهُ لَهُمۡۚ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمۡ كَفَرُواْ بِٱللَّهِ وَرَسُولِهِۦۗ وَٱللَّهُ لَا يَهۡدِي ٱلۡقَوۡمَ ٱلۡفَٰسِقِينَ} (80)

قوله تعالى : { استغفر لهم أو لا تستغفر لهم إن تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر الله لهم ذلك بأنهم كفروا بالله ورسوله والله يهدي القوم الفاسقين } في الآية مسائل :

المسألة الأولى : قال ابن عباس رضي الله عنهما : إن عند نزول الآية الأولى في المنافقين ، قالوا : يا رسول الله استغفر لنا . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم سأستغفر لكم ، واشتغل بالاستغفار لهم ، فنزلت هذه الآية ، فترك رسول الله صلى الله عليه وسلم الاستغفار . وقال الحسن : كانوا يأتون رسول الله ، فيعتذرون إليه ويقولون إن أردنا إلا الحسنى وما أردنا إلا إحسانا وتوفيقا ، فنزلت هذه الآية . وروى الأصم : أنه كان عبد الله بن أبي بن سلول إذا خطب الرسول . قام وقال هذا رسول الله أكرمه الله وأعزه ونصره ، فلما قام ذلك المقام بعد أحد ، قال له عمر : اجلس يا عدو الله ، فقد ظهر كفرك وجابهه الناس من كل جهة ، فخرج من المسجد ، ولم يصل فلقيه رجل من قومه . فقال له : ما صرفك ؟ فحكى القصة . فقال : ارجع إلى رسول الله يستغفر لك . فقال : ما أبالي استغفر لي أو لم يستغفر لي فنزل { وإذا قيل لهم تعالوا يستغفر لكم رسول الله لووا رؤوسهم } وجاء المنافقون بعد أحد يعتذرون ويتعللون بالباطل أن يستغفر لهم .

المسألة الثانية : { إن تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر الله لهم } وروى الشعبي قال : دعا عبد الله بن عبد الله بن أبي بن سلول رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى جنازة أبيه فقال له عليه السلام : «من أنت ؟ » فقال : أنا الحباب بن عبد الله قال : بل أنت عبد الله بن عبد الله ، إن الحباب هو الشيطان ، ثم قرأ هذه الآية . قال القاضي : ظاهر قوله : { استغفر لهم أو لا تستغفر لهم } كالدلالة على طلب القوم منه الاستغفار ، وقد حكيت ما روي فيه من الأخبار ، والأقرب في تعلق هذه الآية بما قبلها ما ذكره ابن عباس رضي الله عنهما أن الذين كانوا يلمزون هم الذين طلبوا الاستغفار ، فنزلت هذه الآية .

المسألة الثالثة : من الناس من قال إن التخصيص بالعدد المعين ، يدل على أن الحال فيما وراء ذلك العدد بخلافه ، وهو مذهب القائلين بدليل الخطاب . قالوا : والدليل عليه أنه لما نزل قوله تعالى : { إن تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر الله لهم } قال عليه السلام : " والله لأزيدن على السبعين " ولم ينصرف عنه حتى نزل قوله تعالى : { سواء عليهم استغفرت لهم أم لم تستغفر لهم } الآية فكف عنهم .

ولقائل أن يقول : هذا الاستدلال بالعكس أولى ، لأنه تعالى لما بين للرسول عليه السلام أنه لا يغفر لهم البتة . ثبت أن الحال فيما وراء العدد المذكور مساو للحال في العدد المذكور ، وذلك يدل على أن التقيد بالعدد لا يوجب أن يكون الحكم فيما وراءه بخلافه .

المسألة الرابعة : من الناس من قال : إن الرسول عليه السلام اشتغل بالاستغفار للقوم ، فمنعه الله منه ، ومنهم من قال : إن المنافقين طلبوا من الرسول عليه الصلاة والسلام أن يستغفر لهم فالله تعالى نهاه عنه والنهي عن الشيء لا يدل على كون المنهي مقدما على ذلك الفعل ، وإنما قلنا إنه عليه السلام ما اشتغل بالاستغفار لهم لوجوه : الأول : أن المنافق كافر ، وقد ظهر في شرعه عليه السلام أن الاستغفار للكافر لا يجوز . ولهذا السبب أمر الله رسوله بالاقتداء بإبراهيم عليه السلام إلا في قوله لأبيه { لأستغفرن لك } وإذا كان هذا مشهورا في الشرع فكيف يجوز الإقدام عليه ؟ الثاني : أن استغفار الغير للغير لا ينفعه إذا كان ذلك الغير مصرا على القبح والمعصية . الثالث : أن إقدامه على الاستغفار للمنافقين يجري مجرى إغرائهم بالإقدام على الذنب . الرابع : أنه تعالى إذا كان لا يجيبه إليه بقي دعاء الرسول عليه السلام مردودا عند الله ، وذلك يوجب نقصان منصبه . الخامس : أن هذا الدعاء لو كان مقبولا من الرسول لكان قليله مثل كثيره في حصول الإجابة . فثبت أن المقصود من هذا الكلام أن القوم لما طلبوا منه أن يستغفر لهم منعه الله منه ، وليس المقصود من ذكر هذا العدد تحديد المنع ، بل هو كما يقول القائل لمن سأله الحاجة : لو سألتني سبعين مرة لم أقضها لك ، ولا يريد بذلك أنه إذا زاد قضاها فكذا ههنا ، والذي يؤكد ذلك قوله تعالى في الآية : { ذلك بأنهم كفروا بالله } فبين أن العلة التي لأجلها لا ينفعهم استغفار الرسول وإن بلغ سبعين مرة ، كفرهم وفسقهم ، وهذا المعنى قائم في الزيادة على السبعين ، فصار هذا التعليل شاهدا بأن المراد إزالة الطمع في أن ينفعهم استغفار الرسول عليه السلام مع إصرارهم على الكفر ، ويؤكده أيضا قوله تعالى : { والله لا يهدي القوم الفاسقين } والمعنى أن فسقهم مانع من الهداية . فثبت أن الحق ما ذكرناه .

المسألة الخامسة : قال المتأخرون من أهل التفسير ، السبعون عند العرب غاية مستقصاة لأنه عبارة عن جمع السبعة عشر مرات ، والسبعة عدد شريف لأن عدد السموات والأرض والبحار والأقاليم والنجوم والأعضاء ، هو هذا العدد . وقال بعضهم : هذا العدد إنما خص بالذكر ههنا لأنه روي أن النبي عليه السلام كبر على حمزة سبعين تكبيرة ، فكأنه قيل : { إن تستغفر لهم سبعين مرة } بإزاء صلاتك على حمزة ، وقيل الأصل فيه قوله تعالى : { كمثل حبة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة } وقال عليه السلام : «الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة » فلما ذكر الله تعالى هذا العدد في معرض التضعيف لرسوله صار أصلا فيه .