تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تَكُونُواْ كَٱلَّذِينَ ءَاذَوۡاْ مُوسَىٰ فَبَرَّأَهُ ٱللَّهُ مِمَّا قَالُواْۚ وَكَانَ عِندَ ٱللَّهِ وَجِيهٗا} (69)

قال البخاري عند تفسير{[24061]} هذه الآية : حدثنا إسحاق بن إبراهيم ، حدثنا روح بن عبادة ، حدثنا عوف ، عن الحسن [ ومحمد ]{[24062]} وخلاس ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن موسى كان رجلا حَيِيا ، وذلك قوله : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهًا }{[24063]} .

هكذا أورد هذا الحديث هاهنا مختصرًا جدًا ، وقد رواه في أحاديث " الأنبياء " بهذا السند بعينه ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن موسى ، عليه السلام ، كان رجلا حَيِيا سِتِّيرا ، لا يُرَى من جلده شَيء استحياء منه ، فآذاه من آذاه من بني إسرائيل ، فقالوا : ما يتستر هذا التستر إلا من عيب بجلده ، إما برص وإما أدْرَة وإما آفة ، وإن الله ، عز وجل ، أراد أن يُبرئَه مما قالوا لموسى عليه السلام ، فخلا يوما وحده ، فخلع ثيابه على حجر ، ثم اغتسل ، فلمَّا فرغ أقبل إلى ثيابه ليأخذها ، وإن الحجر عدا بثوبه ، فأخذ موسى عصاه وطلب الحجر ، فجعل يقول : ثوبي حَجَر ، ثوبي حَجَر ، حتى انتهى إلى ملأ من بني إسرائيل ، فرأوه عُريانا أحسن ما خلق الله ، عز وجل ، وأبرأه مما يقولون ، وقام الحجر ، فأخذ ثوبَه فلبسه ، وطَفقَ بالحجر ضربًا بعصاه ، فوالله إن بالحجر لَنَدبًا من أثر ضربه ثلاثًا أو أربعًا أو خمسًا - قال : فذلك قوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا لا تكونوا كالذين آذوا موسى فبرأه الله مما قالوا وكان عند الله وجيها } .

وهذا سياق حسن مطول ، وهذا الحديث من أفراد البخاري دون مسلم{[24064]}

وقال الإمام أحمد : حدثنا روح ، حدثنا عوف ، عن الحسن ، عن النبي صلى الله عليه وسلم - وخلاس ، ومحمد ، عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في هذه الآية : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا } قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم : " إن موسى كان رجلا حَيِيا ستِّيرا ، لا يكاد يُرَى من جلده شَيء استحياء منه " {[24065]} .

ثم ساق الحديث كما رواه البخاري مطولا ورواه في تفسيره{[24066]} . عن روح ، عن عوف ، به . ورواه ابن جرير من حديث الثوري ، عن جابر الجعفي ، عن عامر الشعبي ، عن أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم بنحو هذا{[24067]} . وهكذا رواه من حديث سليمان بن مِهْرَان الأعمش ، عن المنْهَال بن عمرو ، عن سعيد بن جُبَيْر ، وعبد الله بن الحارث ، عن ابن عباس في قوله : { لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى } قال : قال قومه له : إنك آدر . فخرج ذات يوم يغتسل ، فوضع ثيابه على صخرة ، فخرجت الصخرة تشتد بثيابه ، وخرج يتبعها عريانا حتى انتهت به مجالس بني إسرائيل ، قال : فرأوه ليس بآدر ، فذلك قوله : { فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا } .

وهكذا رواه العوفي ، عن ابن عباس سواء .

وقال الحافظ أبو بكر البزار : حدثنا روح بن حاتم وأحمد بن المعلى الآدميّ قالا حدثنا يحيى بن حماد ، حدثنا حماد بن سلمة ، عن علي بن زيد ، عن أنس ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " كان موسى ، عليه السلام ، رجلا حَيِيا ، وإنه أتى - أحسبه قال : الماء - ليغتسل ، فوضع ثيابه على صخرة ، وكان لا يكاد تبدو عورته ، فقال{[24068]} بنو إسرائيل : إن موسى آدر - أو : به آفة ، يعنون : أنه لا يضع ثيابه - فاحتملت الصخرة ثيابه حتى صارت بحذاء مجالس بني إسرائيل ، فنظروا إلى موسى كأحسن الرجال ، أو كما قال ، فذلك قوله : { فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهًا }{[24069]} .

وقال ابن أبي حاتم ، حدثنا أبي ، حدثنا سعيد بن سليمان ، حدثنا عباد بن العوام ، عن سفيان بن حسين ، حدثنا الحكم ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس{[24070]} عن علي بن أبي طالب ، رضي الله عنهم ، في قوله : { فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا } قال : صعد موسى وهارون الجبل ، فمات هارون ، عليه السلام ، فقال بنو إسرائيل لموسى ، عليه السلام : أنت قتلته ، كان ألين لنا منك وأشد حياء . فآذوه من ذلك ، فأمر الله الملائكة فحملته ، فمروا{[24071]} به على مجالس بني إسرائيل ، فتكلمت بموته ، فما عرف موضع قبره إلا الرَّخَم ، وإن الله جعله أصم أبكم .

وهكذا رواه ابن جرير ، عن علي بن موسى الطوسي ، عن عباد بن العوام ، به{[24072]} .

ثم قال : وجائز أن يكون هذا هو المراد بالأذى ، وجائز أن يكون الأول هو المراد ، فلا قول أولى من قول الله ، عز وجل .

قلت : يحتمل أن يكون الكل مرادا ، وأن يكون معه غيره ، والله أعلم .

قال{[24073]} الإمام أحمد : حدثنا أبو معاوية ، حدثنا الأعمش ، عن شَقيق ، عن عبد الله قال : قسم رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم قسما ، فقال رجل من الأنصار : إن هذه القسمة{[24074]} ما أريد بها وجه الله . قال : فقلت : يا عدو الله ، أما لأخبرن رسول الله صلى الله عليه وسلم بما قلت . قال : فذكر{[24075]} ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فاحمرَّ وجهه ، ثم قال : " رحمة الله على موسى ، فقد أوذي بأكثر من هذا فصبر " .

أخرجاه في الصحيحين{[24076]} من حديث سليمان بن مهران الأعمش ، به{[24077]} .

طريق أخرى : قال الإمام أحمد : حدثنا حجاج ، سمعت إسرائيل بن يونس ، عن الوليد بن أبي هاشم{[24078]} - مولى الهمداني ، عن زيد بن زائد ، عن عبد الله بن مسعود قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه : " لا يبلِّغني أحد من أصحابي عن أحد شيئا ، فإني أحب أن أخرج إليكم وأنا [ سليم الصدر ] " {[24079]} . فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم مالٌ فقسمه ، قال : فمررت برجلين وأحدهما يقول لصاحبه : والله ما أراد محمد بقسمته وجه الله ولا الدار الآخرة . قال : فَتَثَبَّتُ حتى سمعت{[24080]} ما قالا ثم أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت : يا رسول الله ، إنك قلت لنا : " لا يبلغني أحد عن أصحابي شيئا " ، وإني مررت بفلان وفلان ، وهما يقولان كذا وكذا . فاحمر وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم وشَقَّ عليه ، ثم قال : " دعنا منك ، لقد أوذي موسى بأكثر من هذا ، فصبر " {[24081]} .

وقد رواه أبو داود في الأدب ، عن محمد [ بن يحيى الذُّهْلي ، عن محمد بن يوسف الفريابي ، عن إسرائيل عن الوليد ]{[24082]} بن أبي هاشم{[24083]} به مختصرًا : " لا يبلغني أحد [ من أصحابي ]{[24084]} عن أحد شيئا ؛ إني أحب أن أخرج إليكم وأنا سليم الصدر " {[24085]}

وكذا رواه الترمذي في " المناقب " ، عن الذهلي سواء ، إلا أنه قال : " زيد بن زائدة " . ورواه أيضا عن محمد بن إسماعيل ، عن عبد الله بن محمد ، عن عبيد الله بن موسى وحسين بن محمد كلاهما عن إسرائيل ، عن السدي ، عن الوليد بن أبي هاشم ، به مختصرا أيضا ، فزاد في إسناده السدي ، ثم قال : غريب من هذا الوجه{[24086]} .

وقوله : { وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهًا } أي : له وجاهة وجاه عند ربه ، عز وجل .

قال الحسن البصري : كان مستجابَ الدعوة عند الله . وقال غيره من السلف : لم يسأل الله شيئا إلا أعطاه . ولكن منع الرؤية لما يشاء الله ، عز وجل .

وقال بعضهم : من وجاهته العظيمة [ عند الله ] {[24087]} : أنه شفع في أخيه هارون أن يرسله الله معه ، فأجاب الله سؤاله ، وقال : { وَوَهَبْنَا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنَا أَخَاهُ هَارُونَ نَبِيًّا } [ مريم : 53 ] .


[24061]:- في ت: "روى البخاري عند تفسيره".
[24062]:- زيادة من ت ، أ ، والبخاري.
[24063]:- صحيح البخاري برقم (4799).
[24064]:- صحيح البخاري برقم (3404).
[24065]:- المسند (3/514).
[24066]:- في أ: "ورواه عنه في تفسيره".
[24067]:- تفسير الطبري (22/36)
[24068]:- في ف ، أ: "فقالت".
[24069]:- مسند البزار برقم (2252) "كشف الأستار" وقال الهيثمي في المجمع (7/92): "وفيه إسحاق بن عبد الله بن أبي فروة وهو متروك".
[24070]:- في ت: "وروى ابن أبي حاتم بإسناده".
[24071]:- في أ: "فمرت".
[24072]:- تفسير الطبري (22/37).
[24073]:- في ت: "وروى".
[24074]:- في أ: "لقسمة".
[24075]:- في ت ، أ: "فذكرت".
[24076]:- في ت: "أخرجه البخاري ومسلم".
[24077]:- المسند (1/380) وصحيح البخاري برقم (3405) وصحيح مسلم برقم (1062).
[24078]:- في أ: "هشام".
[24079]:- زيادة من ت ، ف ، أ ، والمسند.
[24080]:- في أ: "فقلت حين سمعت".
[24081]:- المسند (1/395).
[24082]:- زيادة من ت ، ف ، أ ، وأبي داود.
[24083]:- في ف ، أ: "هشام".
[24084]:- زيادة من ت ، ف ، أ ، وأبي داود.
[24085]:- سنن أبي داود برقم (4860).
[24086]:- سنن الترمذي برقم (3896).
[24087]:- زيادة من ت.
 
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي - البيضاوي [إخفاء]  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تَكُونُواْ كَٱلَّذِينَ ءَاذَوۡاْ مُوسَىٰ فَبَرَّأَهُ ٱللَّهُ مِمَّا قَالُواْۚ وَكَانَ عِندَ ٱللَّهِ وَجِيهٗا} (69)

{ يا أيها الذين آمنوا لا تكونوا كالذين آذوا موسى فبرأه الله مما قالوا } فأظهر براءته من مقولهن يعني مؤداه ومضمونه ، وذلك أن قارون حرض امرأة على قذفه بنفسها فعصمه الله كما مر في القصص ، أو اتهمه ناس بقتل هرون لما خرج معه إلى الطور فمات هناك ، فحملته الملائكة ومروا به حتى رؤوه غير مقتول . وقيل أحياه الله فأخبرهم ببراءته ، أو قذفوه بعيب في بدنه من برص أو أدرة لفرط تستره حياء فأطلعهم الله على أنه بريء منه . { وكان عند الله وجيها } ذا قربة ووجاهة . وقرئ وكان " عبد الله وجيها " .

 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تَكُونُواْ كَٱلَّذِينَ ءَاذَوۡاْ مُوسَىٰ فَبَرَّأَهُ ٱللَّهُ مِمَّا قَالُواْۚ وَكَانَ عِندَ ٱللَّهِ وَجِيهٗا} (69)

لما تقضى وعيد الذين يؤذون الرسول عليه الصلاة والسلام بالتكذيب ونحوه من الأذى المنبعث عن كفرهم من المشركين والمنافقين من قوله : { إن الذين يؤذون الله ورسوله لعنهم الله في الدنيا والآخرة } [ الأحزاب : 57 ] حذر المؤمنين مما يؤذي الرسول صلى الله عليه وسلم بتنزيههم عن أن يكونوا مثل قوم نَسبوا إلى رسولهم ما هو أذى له وهم لا يعبأون بما في ذلك من إغضابه الذي فيه غضب الله تعالى . ولما كان كثير من الأذى قد يحصل عن غفلة أصحابه عما يوجبه فيصدر عنهم من الأقوال ما تجيش به خواطرهم قبل التدبر فيما يحفّ بذلك من الاحتمالات التي تقلعه وتنفيه ودون التأمل يترتب عليه من إخلال بالواجبات . وكذلك يصدر عنهم من الأعمال ما فيه ورطة لهم قبل التأمل في مغبة عملهم ، نبه الله المؤمنين كي لا يَقعُوا في مثل تلك العنجهية لأن مدارك العقلاء في التنبيه إلى معاني الأشياء وملازماتها متفاوتة المقادير ، فكانت حَرية بالإِيقاظ والتحذير . وفائدة التشبيه تشويه الحالة المشبَّهة لأن المؤمنين قد تقرر في نفوسهم قبْح ما أوذي به موسى عليه السلام بما سبق من القرآن كقوله : { وإذ قال موسى لقومه يا قوم لم تؤذونني وقد تعلمون أني رسول الله إليكم فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم } [ الصف : 5 ] الآية .

والذين آذوا موسى هم طوائف من قومه ولم يكن قصدهم أذاه ولكنهم أهملوا واجب كمال الأدب والرعاية مع أعظم الناس بينهم . وقد حكى الله عنهم ذلك إجالاً وتفصيلاً بقوله : { وإذ قال موسى لقومه } الآية ( فلم يكن هذا الأذى من قبيل التكذيب لأجل قوله : { وقد تعلمون أني رسول الله إليكم } والاستفهام في قوله : { لم تؤذونني } إنكاري ) . فكان توجيه الخطاب للمؤمنين من أمة محمد صلى الله عليه وسلم مراعى فيه المشابهة بين الحالين في حصول الإِذاية . فالذين آذوا موسى قالوا مرة { فاذهب أنت وربك فقاتلا إنَّا ههنا قاعدون } [ المائدة : 24 ]

فآذوه بالعصيان وبضرب من التهكم . وقالوا مرة { أَتتَّخِذُنا هزؤا } [ البقرة : 67 ] فنسبوه إلى الطيش ولاسخرية ولذلك قال لهم { أعوذ بالله أن أكون من الجاهلين } [ البقرة : 67 ] . وفي التوراة في الإصحاح الرابع عشر من الخروج « وقالوا لموسى فإذا صنعت بنا حتى أخرجتنا

من مصر فإنه خير لنا أن نخدُم المصريين من أن نموت في البرية » . وفي الإصحاجح السادس عشر « وقالوا لموسى وهراون إنكما أخرجتمونا إلى هذا القفر لكي تميتا كل هذا الجمهور بالجوع » . وفي الحديث « إن موسى كان رجلاً حييّاً ستِّيراً فقال فريق من قومه : ما

نراه يستتر إلا مِن عاهة فيه . فقال قوم : به برص ، وقال قوم : هو آدر » ونحو هذا ، وكان قريباً من هذا قول المنافقين : إن محمداً تزوج مطلقة ابنه زيد بن حارثة . وقد دلت هذه الآية على وجوب توقير النبيء صلى الله عليه وسلم وتجنب ما يؤذيه وتلك سنة الصحابة والمسلمين وقد عرضَت فلتاتٌ من بعض أصحابه الذين لم يبلغوا قبلها كمال التخلق بالقرآن مثل الذي قال له لما حَكَم بينه وبين الزُبير في ماء شراح الحَرّة : أنْ كان ابنَ عمتِك يا رسول الله . ومثل التميمي خرفوص الذي قال في قسمَة مغانم حُنين : « هذه قسمة ما أريد بها وجه الله ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : يرحم الله موسى لقد أوذي بأكثر من هذا فصبَر » .

واعلم أن محل الشتبيه هو قوله : { كالذين آذوا موسى } دون ما فرع عليه من قوله : { فبرأه الله مما قالوا } وإنما ذلك إدماج وانتهاز للمقام بذكر براءة موسى مما قالوا ، ولا اتصال له بوجه التشبيه لأن نبيئنا صلى الله عليه وسلم لم يُوذَ إيذاء يقتضي ظهور براءته ما أوذي به .

ومعنى « بَرَّأه » أظهر براءته عيَاناً لأن موسى كان بريئاً مما قالوه من قبل أن يؤذوه بأقوالهم فليس وجود البراءة منه متفرعة على أقوالهم ولكن الله أظهرها عقب أقوالهم فإِن الله أظهر براءته من التغرير بهم إذ أمرهم بدخول أريحا فثبّت قلوبهم وافتتحوها وأظهر

براءته من الاستهزاء بهم إذ أظهر معجزته حين ذبحوا البقرة التي أمرهم بذبحها فتبين من قتل النفس التي ادّارأوا فيها .

وأظهر سلامته من البرص والأدرة حين بدا لهم عرياناً لما انتقل الحجر الذي عليه ثيابه . ومعنى : « برأه مما قالوا » برأه من مضمون قولهم لا من نفس قولهم لأن قولهم قد حصل وأوذي به وهذا كما سموا السُّبة القالة . ونظيره قوله تعالى : { ونرثه ما يقول } [ مريم : 80 ] ،

أي ما دل عليه مقاله وهو قوله : { لأوتين مالاً وولداً } [ مريم : 77 ] أي نرثه ماله وولده . وجملة { وكان عند الله وجيهاً } معترضة في آخر الكلام ومفيدة سبب عناية الله بتبرئته . والوجيه صفة مشبهة ، أي ذو الوجاهة . وهي الجاه وحسن القبول عند الناس . يقال : وجُه الرجل ، بضم الجيم ، وجاهة فهو وجيه . وهذا الفعل مشتق من الاسم الجامد وهو الوجْه الذي للإِنسان ، فمعنى كونه وجيهاً عند الله أنه مرضيّ عنه مقبول مغفور له مستجاب الدعوة .

وقد تقدم قوله تعالى : { وجيهاً في الدنيا والآخرة } في سورة [ آل عمران : 45 ] ، فضُمّه إلى هنا . وذكر فعل { كان } دال على تمكن وجاهته عند الله تعالى . وهذا تسفيه للذين آذوه بأنهم آذوه بما هو مبرأ منه ، وتنويه وتوجيه لتنزيه الله إياه لأنه مستأهل لتلك التبرئة لأنه وجيه عند الله وليس بخامل .

 
الجامع التاريخي لبيان القرآن الكريم - مركز مبدع [إخفاء]  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تَكُونُواْ كَٱلَّذِينَ ءَاذَوۡاْ مُوسَىٰ فَبَرَّأَهُ ٱللَّهُ مِمَّا قَالُواْۚ وَكَانَ عِندَ ٱللَّهِ وَجِيهٗا} (69)

جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :

يقول تعالى ذكره لأصحاب نبيّ الله صلى الله عليه وسلم: يا أيها الذين آمنوا بالله ورسوله لا تؤذوا رسول الله بقول يكرهه منكم، ولا بفعل لا يحبه منكم، ولا تكونوا أمثال الذين آذوا موسى نبيّ الله، فرموه بعيب كذبا وباطلاً فَبرّأهُ اللّهُ مِمّا قالُوا فيه من الكذب والزور بما أظهر من البرهان على كذبهم

"وكانَ عِنْدَ اللّهِ وَجِيها" يقول: وكان موسى عند الله مشفعا فيما يسأل، ذا وجه ومنزلة عنده بطاعته إياه.

ثم اختلف أهل التأويل في الأذى الذي أوذي به موسى الذي ذكره الله في هذا الموضع؛ ...

.

وأولى الأقوال في ذلك بالصواب أن يقال: إن بني إسرائيل آذوا نبيّ الله ببعض ما كان يكره أن يؤذي به، فبرأه الله مما آذوه به. وجائز أن يكون ذلك كان قيلهم إنه أبرص، وجائز أن يكون كان ادّعاءهم عليه قتل أخيه هارون. وجائز أن يكون كلّ ذلك، لأنه قد ذكر كلّ ذلك أنهم قد آذوه به، ولا قول في ذلك أولى بالحقّ مما قال الله إنهم آذوا موسى، فبرأه الله مما قالوا.

أحكام القرآن لابن العربي 543 هـ :

فِي هَذَا النَّهْيِ عن التَّشَبُّهِ بِبَنِي إسْرَائِيلَ فِي إذَايَةِ نَبِيِّهِمْ مُوسَى: وَفِيهِ تَحْقِيقُ الْوَعْدِ بِقَوْلِهِ: {لَتَرْكَبُنَّ سَنَنَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ}. وَهِيَ: الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: فَوَقَعَ النَّهْيُ، تَكْلِيفًا لِلْخَلْقِ، وَتَعْظِيمًا لِقَدْرِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَوَقَعَ الْمَنْهِيُّ عَنْهُ تَحْقِيقًا لِلْمُعْجِزَةِ، وَتَصْدِيقًا لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَنْفِيذًا لِحُكْمِ الْقَضَاءِ وَالْقَدَرِ، وَرَدًّا عَلَى الْمُبْتَدِعَةِ.

مفاتيح الغيب للرازي 606 هـ :

لما بين الله تعالى أن من يؤذي الله ورسوله يلعن ويعذب وكان ذلك إشارة إلى إيذاء هو كفر، أرشد المؤمنين إلى الامتناع من إيذاء هو دونه وهو لا يورث كفرا، وذلك مثل من لم يرض بقسمة النبي عليه السلام وبحكمه بالفيء لبعض، وغير ذلك فقال: {يا أيها الذين آمنوا لا تكونوا كالذين آذوا موسى} وبالجملة الإيذاء المذكور في القرآن كاف وهو أنهم قالوا له: {اذهب أنت وربك فقاتلا} وقولهم: {لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة} وقولهم: {لن نصبر على طعام واحد} إلى غير ذلك؛ فقال للمؤمنين لا تكونوا أمثالهم إذا طلبكم الرسول إلى القتال أي لا تقولوا: {اذهب أنت وربك فقاتلا} ولا تسألوا ما لم يؤذن لكم فيه: (وإذا أمركم الرسول بشيء فأتوا منه ما استطعتم)...

{وكان عند الله وجيها} أي ذا وجاهة ومعرفة، والوجيه هو الرجل الذي يكون له وجه أي يكون معروفا بالخير، وكل أحد وإن كان عند الله معروفا، لكن المعرفة المجردة لا تكفي في الوجاهة، فإن من عرف غيره لكونه خادما له وأجيرا عنده، لا يقال هو وجيه عند فلان، وإنما الوجيه من يكون له خصال حميدة تجعل من شأنه أن يعرف ولا ينكر وكان كذلك.

تفسير القرآن العظيم لابن كثير 774 هـ :

{وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهًا}...قال بعضهم: من وجاهته العظيمة [عند الله]: أنه شفع في أخيه هارون أن يرسله الله معه، فأجاب الله سؤاله، وقال: {وَوَهَبْنَا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنَا أَخَاهُ هَارُونَ نَبِيًّا} [مريم: 53].

تفسير القرآن للمراغي 1371 هـ :

ولم يعين لنا الكتاب الكريم ما قالوا في موسى، ومن الخير ألا نعينه حتى لا يكون ذلك رجما بالغيب دون أن يقوم عليه دليل.

في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :

ويبدو أن زواج الرسول [صلى الله عليه وسلم] من زينب بنت جحش -رضي الله عنها- مخالفا في ذلك عرف الجاهلية الذي تعمد الإسلام أن يبطله بهذه السابقة العملية. يبدو أن هذا الزواج لم يمر بسهولة ويسر؛ وأنه قد انطلقت ألسنة كثيرة من المنافقين ومرضى القلوب، وغير المتثبتين الذين لم يتضح في نفوسهم التصور الإسلامي الناصع البسيط، انطلقت تغمز وتلمز، وتؤول وتعترض، وتهمس وتوسوس. وتقول قولا عظيما!

والمنافقون والمرجفون لم يكونوا يسكتون. فقد كانوا ينتهزون كل فرصة لبث سمومهم. كالذي رأينا في غزوة الأحزاب. وفي حديث الإفك. وفي قسمة الفيء. وفي كل مناسبة تعرض لإيذاء النبي [صلى الله عليه وسلم] بغير حق.

وفي هذا الوقت -بعد إجلاء بني قريظة وسائر اليهود من قبل- لم يكن في المدينة من هو ظاهر بالكفر. فقد أصبح أهلها كلهم مسلمين، إما صادقين في إسلامهم وإما منافقين. وكان المنافقون هم الذين يروجون الشائعات، وينشرون الأكاذيب، وكان بعض المؤمنين يقع في حبائلهم، ويسايرهم في بعض ما يروجون. فجاء القرآن يحذرهم إيذاء النبي صلى الله عليه وسلم كما آذى بنو إسرائيل نبيهم موسى -عليه السلام- ويوجههم إلى تسديد القول، وعدم إلقائه على عواهنه، بغير ضبط ولا دقة؛ ويحببهم في طاعة الله ورسوله وما وراءها من فوز عظيم: (يا أيها الذين آمنوا لا تكونوا كالذين آذوا موسى فبرأه الله مما قالوا. وكان عند الله وجيها. يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولا سديدا، يصلح لكم أعمالكم، ويغفر لكم ذنوبكم. ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزا عظيما)..

ولم يحدد القرآن نوع الإيذاء لموسى؛ ولكن وردت روايات تعينه. ونحن لا نرى بنا من حاجة للخوض في هذا الذي أجمله القرآن. فإنما أراد الله تحذير الذين آمنوا من كل ما يؤذي النبي [صلى الله عليه وسلم]

وقد ضرب بني إسرائيل مثلا للالتواء والانحراف في مواضع من القرآن كثيرة. فيكفي أن يشير إلى إيذائهم لنبيهم. وتحذير المسلمين من متابعتهم فيه، لينفر حس كل مؤمن من أن يكون كهؤلاء المنحرفين الملتوين الذين يضربهم القرآن مثلا صارخا للانحراف والالتواء.

وقد برأ الله موسى مما رماه به قومه، (وكان عند الله وجيها) ذا وجاهة وذا مكانة. والله مبرئ رسله من كل ما يرمون به كذبا وبهتانا. ومحمد [صلى الله عليه وسلم] أفضل الرسل أولاهم بتبرئة الله له والدفاع عنه.

التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :

فائدة التشبيه تشويه الحالة المشبَّهة، لأن المؤمنين قد تقرر في نفوسهم قبْح ما أوذي به موسى عليه السلام بما سبق من القرآن كقوله: {وإذ قال موسى لقومه يا قوم لم تؤذونني وقد تعلمون أني رسول الله إليكم فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم} [الصف: 5] الآية.

والذين آذوا موسى هم طوائف من قومه ولم يكن قصدهم أذاه ولكنهم أهملوا واجب كمال الأدب والرعاية مع أعظم الناس بينهم.

وذكر فعل {كان} دال على تمكن وجاهته عند الله تعالى.

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :

إنّ اختيار موسى (عليه السلام) من جميع الأنبياء الذين طالما اُوذوا، بسبب أنّ المؤذين من بني إسرائيل قد آذوه أكثر من أي نبي آخر، إضافةً إلى أنّ بعض أنواع الأذى التي رآها كانت تشبه أذى المنافقين لنبي الإسلام (صلى الله عليه وآله)؛ إلاّ أنّ الأقرب لمعنى الآية، هو أنّها بصدد بيان حكم كلّي عام جامع.

يستفاد من هذه الآية أنّ من كان عند الله وجيهاً وذا منزلة، فإنّ الله سبحانه يدافع عنه في مقابل من يؤذيه ويتّهمه بالأباطيل، فكن طاهراً وعفيفاً، واحفظ وجاهتك عند الله، فإنّه تعالى سيظهر عفّتك وطهارتك للناس، حتّى وإن سعى الأشقياء والمسيؤون إلى اتّهامك وتحطيم منزلتك وتشويه سمعتك بين الناس.

وقد قرأنا نظير هذا المعنى في قصّة «يوسف» الصدّيق الطاهر، وكيف برّأه الله سبحانه من تهمة امرأة عزيز مصر الكبيرة والخطيرة.

والجدير بالذكر أنّ هذا الخطاب لم يكن مختّصاً بالمؤمنين في زمان النّبي (صلى الله عليه وآله)، بل من الممكن أن تشمل الآية حتّى اُولئك الذين سيولدون بعده ويقومون بعمل يؤذون روحه الطاهرة به، فيحتقرون دينه ويستصغرون شأنه.