اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تَكُونُواْ كَٱلَّذِينَ ءَاذَوۡاْ مُوسَىٰ فَبَرَّأَهُ ٱللَّهُ مِمَّا قَالُواْۚ وَكَانَ عِندَ ٱللَّهِ وَجِيهٗا} (69)

قوله تعالى : { يا أيها الذين آمَنُوا لاَ تَكُونُوا كالذين آذَوْا موسى } الآية لما بين أن من يؤذي الله ورسوله يُلعن ويعذب ، وكان ذلك إشارة إلى أن الإيذاء كفر أرشد المؤمنين إلى الامتناع من الإيذاء الذي هو دونه وهو لا يورث كفراً وهو من لم يرض بقسمة النبي عليه ( الصلاة و ) السلام وبحكمه ( بالفَيْءِ لِبَعْض ) فقال : لا تكونوا كالذين آذوا موسى قال بعضهم : إيذاؤهم لموسى بنسبة عيب في بَدَنِهِ ، وقيل : إن قارون قال لامرأة : قولي إِن موسى قد وقع في فاحشةٍ والإيذاء المذكور في القرآن كاف وهو قولهم : { فاذهب أَنتَ وَرَبُّكَ فقاتلا } وقولهم : { لَن نَصْبِرَ على طَعَامٍ وَاحِدٍ } إلى غير ذلك فقال للمؤمنين : لا تكونوا أمثالهم إذا طلبكم الرسول للقتال لا تقولوا اذهب أنت وربك فقاتلا وإذا أمركم الرسول بشيء فأتوا منه ما استطعتم ، وقوله : { فَبرَّأَهُ الله مِمَّا قَالُوا } على الأول ظاهر لأنه أبرز جسمه لقومه فرأوه وعلموا فساد اعتقادهم ونطقت المرأة بالحق وأمر ملائكته حتى عبروا بهارون عليهم فرأوه غير مجروح فعلموا براءة موسى - عليه الصلاة والسلام - عن ما رموه به وعلى الثاني فبرأه الله مما قالوا أي أخرجه عن عهدة ما طلبوا بإِعطائه البعض إياهم وإظهاره عدم جواز البعض وقطع حُجَجهم ثم ضرب عليهم الذّلَّةُ والمسكنة وغضب عليهم{[43991]} .

قوله : «عِنْد اللَّهِ » العامة على «عند » الظرفية المجازية ، وابن مسعود والأعمش وأبو حَيْوة «عبداً » مِن{[43992]} العبودية «لله » جار ومجرور وهي حسنة قال ابن خالويه صَلَّيْت{[43993]} خلف ابن شُنْبُوذ{[43994]} في رمضان فسمعته يقرأ بقراءة ابن مسعود{[43995]} هذه قال شهاب الدين : وكان مولعاً بِنَقْل الشاذة{[43996]} ، ومَا في «مِمَّا قَالُوا » إمَّا مصدرية ، وإما بمعنى الذي{[43997]} ، «وَجِيهاً » كريماً ذَا جاهٍ ، يقال وَجُهَ الرَّجُلُ يَوْجهُ وَجَاهَة فَهُوَ وَجيهٌ إذا كَانَ ذَا جَاهٍ وقَدْرٍ{[43998]} . قال ابن عباس : كان حَظِيّاً عند الله لا يَسْأَلُ شيئاً إلاّ أعطاه وقال الحسن : كان مستجاب الدعوة ، وقيل : كان محبباً مقبولاً{[43999]} ، واختلفوا فيما أُوذِيَ به موسى فروى أبُو هُرَيْرَةَ قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : «إنّ موسى كان رجلاً حَيِياً سَتْراً لا يُرَى مِنْ جِلْدِهِ شَيْءٌ استحياء منه فَآذَاهُ مَنْ آذَاهُ من بني إسرائيل فقال : ما يستتر هذا التَّسَتُّر إلا من عيب بجلده إما بَرَص ، وإما أدرة ، وإمّا آفةٍ ، وإن اللَّهَ أراد أن يُبْرِئَهُ مما قالوا فخلا يوماً وحده فخلع فوضَع ثِيَابَهُ على حجر ثم اغْتَسَلَ فلما فرغ أقبل إلى ثيابه ليأخذها وإن الحجر غدا بثوبه فأخذ موسى عصاه وطلب الحَجَر فجعل يقولُ ثوبي حَجَرٌ ، ثوبي حجر حتى انتهى إلى ملأ من بني إسرائيل فرأوه عُرْيَاناً أحْسَنَ ما خلق الله وَأَبْرَأَهُ مِمَّا يَقُولُونَ وقام الحجر فأخذ ثوبه واستتر وطفق بالحجر يضربه بعصاه فو اللَّه إن بالحجر لنَدْباً من أثر ضربه ثلاثاً أو أربعاً أو خَمْساً{[44000]} .

وقيل : لما مات{[44001]} هارون في التيه ادَّعوا على موسى أنه قتله فأمر الله الملائكة حتى مروا به على بني إسرائيل فعرفوا أنه لم يقتله ولم يروا ببدنه جرحاً ، وقال أبو العالية : إن قارون استأجر امرأة لتقذف موسى بنفسها على رأس الملأ فعصمه الله وبرأ موسى وأهْلَكَ قَارُون{[44002]} ، ورَوَى أبُو وَائلٍ{[44003]} قال : سمعت عبد الله قال : «قسم النبي - صلى الله عليه وسلم - قَسْماً فقال رجل إن هذه القسمة ما أريد بها وجه الله فأتيت النبي - صلى الله عليه وسلم - فأخبرته فغضب حتى رأيت الغضب في وجهه ثم قال «يَرْحَمُ اللَّهُ مُوسَى أَوذِيَ بأَكْثَرَ مِنْ هَذَا فَصَبَرَ » .


[43991]:الإمام الفخر الرازي 25/233.
[43992]:المختصر لابن خالويه 120 والمحتسب 2/185 والقرطبي 14/250 والبحر 7/253.
[43993]:المرجع السابق.
[43994]:محمد بن أحمد بن أيوب بن الصلت بن شنبوذ أبو الحسن البغدادي شيخ الإقراء بالعراق أخذ عن كثيرين منهم أحمد بن نصر بن وأخذ عنه كثير منهم الحسنُ بن سَعِيد المُطَوّعي. مات سنة 328 هـ انظر: غاية النهاية 2/52: 56.
[43995]:اضطرب في نقل هذه القراءة عنه رحمه الله، ففي المحتسب: "وكان عبداً لله وجيهاً" وفي المختصر لابن خالويه "وكان عبد الله وجيهاً" ونسبت للأعمش وأبي حيوة. قال ابن خالويه وقيل: لابن مسعود وما في البحر والقرطبي والكشاف يوافق ما في المختصر انظر: البحر 7/353 والجامع 14/252 والكشاف 3/276 وانظر شواذ القرآن 196 "وكان عبداً لله" موافقة لابن جني في المحتسب وقد ذكر الإتحاف تلك القراءة رغم أنها شاذة فقال: وعن المطوعي "وكان عبداً لله" بفتح العين فباء موحدة مع تنوين الدال منصوبة من العبودية لله بالجر ووجيهاً صفة "عبداً" الإتحاف 356.
[43996]:الدر المصون 4/406.
[43997]:السابق.
[43998]:قال ابن منظور في اللسان "و ج هـ":" وَرَجُلٌ وَجِيهٌ ذُو وَجَاهَةٍ، وقد وجُه الرجل- بالضم- صَارَ وَجيهاً أي ذا جاه وقدر وانظر أيضاً القرطبي 14/252.
[43999]:انظر هذه الأقوال في زاد المسير لابن الجوزي 16/426 ومعالم التنزيل 5/278.
[44000]:الحديث أورده البخاري في صحيحه تفسير سورة 33 و 111. انْظُرْه في البخاري 3/178 وانظر: مسند الإمام أحمد 2/515 وتفسير البغوي 5/278.
[44001]:المرجع الأخير السابق.
[44002]:وانظر أيضاً الخازن 5/278.
[44003]:هو شقيق بن سلمة الأسدي أبو وائل الكوفي أحد سادة التابعين مُخَضْرَم عن أبي بكرة وعمر، وعثمان وعنه الشعبيّ وعمرو بن مرة وغيرهما مات في خلافة عمر بن العزيز وانظر خلاصة 167 وانظر: تفسير الخازن والبغوي 5/278.