ينبه تعالى بني آدم في هذا المقام على شرف أبيهم آدم ، ويبين لهم عداوة عدوهم إبليس ، وما هو مُنْطَوٍ عليه من الحسد لهم ولأبيهم آدم ، ليحذروه ولا يتبعوا طرائقه ، فقال تعالى : { وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ [ فَسَجَدُوا ] }{[11572]} وهذا كقوله تعالى : { وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ [ فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ ] }{[11573]} الآية [ الحجر : 28 - 30 ] ، وذلك أنه تعالى لما خلق آدم ، عليه السلام ، بيده من طين لازب ، وصوره بشرًا [ سويا ]{[11574]} ونفخ فيه من روحه ، وأمر الملائكة بالسجود له تعظيما لشأن الرب تعالى وجلاله ، فسمعوا كلهم وأطاعوا ، إلا إبليس لم يكن من الساجدين . وقد تقدم الكلام على إبليس في أول تفسير " سورة البقرة " .
وهذا الذي قررناه هو اختيار ابن جرير : أن المراد بذلك كله آدم ، عليه السلام .
وقال سفيان الثوري ، عن الأعمش ، عن المِنْهَال بن عمرو ، عن سعيد بن جُبَيْر ، عن ابن عباس : { وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ } قال : خُلِقوا في أصلاب الرجال ، وصُوِّروا في أرحام النساء .
رواه الحاكم ، وقال : صحيح على شرط الشيخين ، ولم يخرجاه{[11575]}
ونقله ابن جرير عن بعض السلف أيضا : أن المراد بخلقناكم ثم صورناكم : الذرية .
وقال الربيع بن أنس ، والسُّدي ، وقتادة ، والضحاك في هذه الآية : { وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ } أي : خلقنا آدم ثم صورنا الذرية .
وهذا فيه نظر ؛ لأنه قال بعده : { ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ } فدل على أن المراد بذلك آدم ، وإنما قيل ذلك بالجمع لأنه أبو البشر ، كما يقول الله تعالى لبني إسرائيل الذين كانوا في زمن الرسول صلى الله عليه وسلم : { وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ وَأَنزلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى } [ البقرة : 57 ] والمراد : آباؤهم الذين كانوا في زمن موسى [ عليه السلام ]{[11576]} ولكن لما كان ذلك مِنَّةً على الآباء الذين هم أصلٌ صار كأنه واقع على الأبناء . وهذا بخلاف قوله تعالى : { وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنْسَانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ [ ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ ] }{[11577]} [ المؤمنون : 12 - 13 ] فإن المراد منه آدم المخلوق من السلالة{[11578]} وذريته مخلوقون من نطفة ، وصح هذا لأن المراد من{[11579]} خلقنا الإنسان الجنس ، لا معينا ، والله أعلم .
عطف على جملة : { ولقد مكناكم في الأرض } [ الأعراف : 10 ] تذكيراً بنعمة إيجاد النّوع ، وهي نعمة عناية ، لأنّ الوجود أشرف من العدم ، بقطع النّظر عما قد يعرض للموجود من الأكدار والمتاعب ، وبنعمة تفضيله على النّوع بأنْ أمَر الملائكة بالسّجود لأصله ، وأُدمج في هذا الامتنان تنبيهٌ وإيقاظ إلى عداوة الشّيطان لنوع الإنسان من القِدم ، ليكون ذلك تمهيداً للتّحذير من وسوسه وتضليله ، وإغراء بالإقلاع عمّا أوقع فيه النّاس من الشّرك والضّلالة ، وهو غرض السورة ، وذلك عند قوله تعالى : { يا بني آدم لا يفتننكم الشيطان كما أخرج أبويكم من الجنة } [ الأعراف : 27 ] ومَا تلاه من الآيات ، فلذلك كان هذا بمنزلة الاستدلال وُسِّط في خلال الموعظة .
والخطاب للنّاس كلّهم ، والمقصود منه المشركون ، لأنّهم الغرض في هذه السورة .
وتأكيد الخبر باللاّم و ( قد ) للوجه الذي تقدّم في قوله : { ولقد خلقناكم } ، وتعدية فعلي الخلق والتّصوير إلى ضمير المخاطبين ، لما كان على معنى خلق النّوع الذي هم من أفراد تعيّن أن يكون المعنى : خلقنا أصلكم ثمّ صوّرناه ، وهو آدم ، كما أفصح عنه قوله : { ثم قلنا للملائكة اسجدوا لآدم } .
والخلق الإيجاد وإبراز الشّيء إلى الوجود ، وهذا الإطلاق هو المراد منه عند إسناده إلى الله تعالى أو وَصْف الله به .
والتّصوير جعل الشّيء صورة ، والصّورة الشّكل الذي يشكّل به الجسم كما يشكّل الطين بصورة نوع من الأنواع .
وعطفت جملة { صورناكم } بحرف ( ثمّ ) الدّالة على تراخي رتبة التّصوير عن رتبة الخلق ، لأنّ التّصوير حالة كمال في الخلق بأن كان الإنسان على الصورة الإنسانيّة المتقنة حسناً وشرفاً ، بما فيها من مشاعر الإدراك والتّدبير ، سواء كان التّصوير مقارناً للخلق كما في خلق آدم ، أم كان بعد الخلق بمدّة ، كما في تصوير الأجنّة من عظام ولحم وعصب وعروق ومشاعر ، كقوله تعالى : { فخلقنا المضغة عظاماً فكسونا العظام لحماً } [ المؤمنون : 14 ] .
وتعدية فعلي ( خلقنا ) و ( صوّرنا ) إلى ضمير الخطاب ينتظم في سلك ما عاد إليه الضّمير قبله في قوله : { ولقد مكناكم في الأرض } [ الأعراف : 10 ] الآية فالخطاب للنّاس كلّهم توطئة لقوله فيما يأتي : { يا بني آدم لا يفتننكم الشيطان كما أخرج أبويكم من الجنة } [ الأعراف : 27 ] والمقصود بالخصوص منه المشركون لأنّهم الذين سوّل لهم الشّيطان كفران هذه النّعم لقوله تعالى عقب ذلك : { وإذا فعلوا فاحشة قالوا وجدنا عليها آباءنا } [ الأعراف : 28 ] وقوله فيما تقدّم : { اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم ولا تتبعوا من دونه أولياء قليلاً ما تذكرون } [ الأعراف : 3 ] .
وأمّا تعلُّق فعلي الخلق والتّصوير بضمير المخاطبين فمراد منه أصل نوعهم الأوّل وهو آدم بقرينة تعقيبه بقوله : ثم قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فنُزل خلق أصل نوعهم منزلةَ خلق أفراد النّوع الذين منهم المخاطبون لأنّ المقصود التّذكير بنعمة الإيجاد ليشكروا موجدهم ونظيره قوله تعالى : { إنا لما طغا الماء حملناكم في الجارية } [ الحاقة : 11 ] أي حملنا أصولكم وهم الذين كانوا مع نوح وتناسل منهم النّاس بعد الطّوفان ، لأنّ المقصود الامتنان على المخاطبين بإنجاء أصولهم الذين تناسلوا منهم ، ويجوز أن يؤول فعلا الخلق والتّصوير بمعنى إرادة حصول ذلك ، كقوله تعالى : حكاية عن كلام الملائكة مع إبراهيم : { فأخرجنا من كان فيها من المؤمنين } [ الذاريات : 35 ] أي أردنا إخراج من كان فيها ، فإن هذا الكلام وقع قبل أمر لوط ومَن آمن به بالخروج من القرية .
ودلّ قوله : { ثم قلنا للملائكة اسجدوا لآدم } على أنّ المخلوق والمصوّر هو آدم ، ومعنى الكلام خلقنا أصلكم وصوّرناه فبرز موجوداً معيَّناً مسمّى بآدم ، فإنّ التّسمية طريق لتعيين المسمّى ، ثمّ أظهرنا فضله وبديع صنعنا فيه فقلنا للملائكة اسجدوا له فوقع إيجاز بديع في نسج الكلام .
و ( ثُمّ ) في قوله : { ثم قال للملائكة اسجدوا لآدم } عاطفةٌ الجملةَ على الجملة فهي مقيّدة للتّراخي الرّتبي لا للتّراخي الزّماني وذلك أنّ مضمون الجملة المعطوفة هنا أرقى رتبة من مضمون الجملة المعطوف عليها .
وقوله : { ثم قلنا للملائكة اسجدوا لآدم } ، تقدّم تفسيره ، وبيانُ ما تقدّم أمَر الله الملائكةَ بالسّجود لآدم ، من ظهور فضل ما علمه الله من الأسماء ما لم يَعلِّمه الملائكة ، عند قوله تعالى : { وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس } في سورة البقرة ( 34 ) .
وتعريف { الملائكة } للجنس فلا يلزم أن يكون الأمر عاماً لجميع الملائكة ، بل يجوز أن يكون المأمورون هم الملائكة ، الذين كانوا في المكان الذي خُلق فيه آدم ، ونقل ذلك عن ابن عبّاس ، ويحتمل الاستغراق لجميع الملائكة . وطريق أمرهم جميعاً وسجودِهم جميعاً لآدم لا يعلمه إلاّ الله ، لأنّ طرق علمهم بمراد الله عنهم في العالم العلوي لا تقاس على المألوف في عالم الأرض .
واعلم أن أمر الله الملائكة بالسّجود لآدم لا يقتضي أن يكون آدمُ قد خلق في العالم الذي فيه الملائكة بل ذلك محتمل ، ويحتمل أنّ الله لمّا خلق آدم حشر الملائكة ، وأطلعهم على هذا الخلق العجيب ، فإنّ الملائكة ينتقلون من مكان إلى مكان فالآية ليست نصّاً في أنّ آدم خلق في السّماوات ولا أنّه في الجنّة التي هي دار الثّواب والعقاب ، وإن كان ظاهرها يقتضي ذلك ، وبهذا الظاهر أخذ جمهور أهل السنّة ، وتقدّم ذلك في سورة البقرة . واستثناء إبليس من الساجدين في قوله : { إلا إبليس } يدلّ على أنّه كان في عداد الملائكة لأنّه كان مختلطا بهم . وقال السكاكي في « المفتاح » عُدّ إبليس من الملائكة بحكم التّغليب .
وجملة : عغتاة ، { لم يكن من الساجدين } حال من ( إبليس ) ، وهي حال مؤكدة لمضمون عاملها وهو ما دلّت عليه أداة الاستثناء ، لما فيها من معنى : أستثنِي ، لأنّ الاستثناء يقتضي ثبوت نقيض حكم المستثنى منه للمستثنَى ، وهو عين مدلول : لم يكن من الساجدين فكانت الحال تأكيداً . وفي اختيار الاخبار عن نفي سجوده بجعْلِه من غير السّاجدين : إشارة إلى أنّه انتفى عنه السّجود انتفاء شديداً لأنّ قولك لم يكن فلان من المهتدين يفيد من النّفي أشدّ ممّا يفيده قولك لم يكن مُهتدياً كما في قوله تعالى : { قل لا أتبع أهواءكم قد ضللت إذاً وما أنا من المهتدين } في سورة الأنعام ( 56 ) .
ففِي الآية إشارة إلى أنّ الله تعالى خلق في نفس إبليس جبلة تدفعه إلى العصيان عندما لا يوافق الأمر هواه ، وجعل له هوىً ورأياً ، فكانت جبلته مخالفة لجبلة الملائكة . وإنّما استمرّ في عِداد الملائكة لأنّه لم يَحدث من الأمر ما يخالف هواه ، فلمّا حدث الأمرُ بالسّجود ظَهر خُلق العصيان الكامِنُ فيه ، فكان قوله تعالى : { لم يكن من الساجدين } إشارة إلى أنّه لم يقدّر له أن يكون من الطائفة السّاجدين ، أي انتفى سجوده انتفاء لارجاء في حصوله بعدُ ، وقد عُلِم أنّه أبى السّجود إباء وذلك تمهيداً لحكاية السّؤال والجواب في قوله : { قال ما منعك ألا تسجد إذ أمرتك } .