الدر المصون في علم الكتاب المكنون للسمين الحلبي - السمين الحلبي  
{وَلَقَدۡ خَلَقۡنَٰكُمۡ ثُمَّ صَوَّرۡنَٰكُمۡ ثُمَّ قُلۡنَا لِلۡمَلَـٰٓئِكَةِ ٱسۡجُدُواْ لِأٓدَمَ فَسَجَدُوٓاْ إِلَّآ إِبۡلِيسَ لَمۡ يَكُن مِّنَ ٱلسَّـٰجِدِينَ} (11)

قوله تعالى : { وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا } : اختلف الناس في " ثم " في هذين الموضعين : فمنهم مَنْ لم يلتزم فيها ترتيباً وجعلها بمنزلة الواو فإنَّ خَلْقَنا وتصويرَنا بعد قوله تعالى للملائكة " اسجدوا " . ومنهم مَنْ قال : هي للترتيب لا في الزمان بل للترتيب في الإِخبار ، ولا طائل في هذا . ومنهم من قال : هي للترتيب الزماني وهذا هو موضوعُها الأصلي . ومنهم مَنْ قال : الأولى للترتيب الزماني والثانية للترتيب الإِخباري . واختلفت عبارة القائلين بأنها للترتيب في الموضعين فقال بعضهم : إنَّ ذلك على حذف مضافين ، والتقدير : ولقد خلقنا آباءكم ثم صَوَّرْنا آباءكم ثم قلنا ، ويعني بأبينا آدم عليه السلام . والترتيب الزماني هنا ظاهر بهذا التقدير . وقال بعضهم : الخطاب في " خلقناكم وصوَّرناكم " لآدم عليه السلام وإنما خاطبه/ بصيغة الجمع وهو واحد تعظيماً له ولأنه أصلُ الجميع ، والترتيب أيضاً واضح .

وقال بعضهم : المخاطبُ بنو آدم والمراد به أبوهم ، وهذا من باب الخطاب لشخصٍ والمرادُ به غيره كقوله : { وَإِذْ نَجَّيْنَاكُم مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ } إلى آخره ، وإنما المُنَجَّى والذي كان يُسامُ سُوءَ العذاب أسلافُهم . وهذا مستفيضٌ في لسانهم . وأنشدوا على ذلك قوله :

إذا افتخرَتْ يوماً تميمٌ بقوسها *** وزادَتْ على ما وطَّدَتْ مِنْ مناقب

فأنتم بذي قارٍ أمالَتْ سيوفُكمْ *** عروشَ الذين استرهنوا قوسَ حاجبِ

وهذه الوقعةُ إنما كانت في أسلافهم .

والترتيبُ أيضاً واضحٌ على هذا . ومن قال : إن الأولى للترتيب الزماني والثانية للترتيب الإِخباري اختلفت عباراتهم أيضاً . فقال بعضهم : المراد بالخطاب الأول آدمُ وبالثاني ذريتُه ، والترتيبُ الزماني واضح ، و " ثم " الثانية للترتيب الإِخباري . وقال بعضهم : ولقد خلقناكم في ظهر آدم ثم صوَّرناكم في بطونِ أمَّهاتكم . وقال بعضهم : ولقد خلقنا أزواجكم ثم صوَّرنا أجسامكم . وهذا غريبٌ نقله القاضي أبو يعلى في " المعتمد " . وقال بعضهم : خلقناكم نُطَفاً في أصلاب الرجال ثم صوَّرْناكم في أرحام النساء . وقال بعضهم : ولقد خلقناكم في بطون أمهاتكم وصوَّرْناكم فيها بعد الخلق بشَقِّ السمع والبصر ، ف " ثم " الأولى لترتيب الزمان ، والثانية لترتيب الإِخبار .

وقوله : { إِلاَّ إِبْلِيسَ } تقدَّم الكلام عليه في البقرة . وقوله " لم يكن " هذه الجملةُ استئنافيةٌ لأنها جواب سؤال مقدر ، وهذا كما تقدَّم في قوله في البقرة " أبى " . وتقدم أن الوقف على إبليس . وقيل : فائدة هذه الجملة التوكيدُ لِما أخرجه الاستثناء من نفي سجود إبليس . وقال أبو البقاء : " إنها في محل نصب على الحال أي : إلا إبليس حال كونه ممتنعاً من السجود " . وهذا كما تقدم له في البقرة من أن " أبى " في موضع نصب على الحال .