اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{وَلَقَدۡ خَلَقۡنَٰكُمۡ ثُمَّ صَوَّرۡنَٰكُمۡ ثُمَّ قُلۡنَا لِلۡمَلَـٰٓئِكَةِ ٱسۡجُدُواْ لِأٓدَمَ فَسَجَدُوٓاْ إِلَّآ إِبۡلِيسَ لَمۡ يَكُن مِّنَ ٱلسَّـٰجِدِينَ} (11)

لما ذكر كَثْرَةَ نِعَمِ اللَّهِ على العبد أتْبَعَهُ بذكر أنَّهُ خلف أبَانَا [ آدم ] وجعله مسجود الملائكة ، والإنعامُ على الأبِ يَجْرِي مجرى الإنعام على الابن .

واختلف النَّاسُ في " ثُمَّ " في هذين الموضعين : فمنهم مَنْ لم يَلْتَزِم [ فيها ] ترتيباً ، وجعلها بمنزلة " الواوِ " فإنَّ خلقنا وتصويرنا بعد قوله تعالى للملائكة " اسْجُدُوا " .

ومنهم من قال : هي للتَّرْتِيبِ لا في الزمان بل للترتيب في الإخبار ولا طائل في هذا .

ومنهم من قال : هي للتَّرْتِيب الزَّمَانيِّ ، وهذا هو موضوعها الأصْلِيُّ .

ومنهم من قال : الأولى للتَّرتيب الزَّمانيِّ والثَّانيةُ للتَّرتيبِ الإخْباريِّ .

واختلف عِبارةُ القائلين بأنَّها للتَّرْتِيب في الموضعين فقال بعضهم : أنَّ ذلك على حذف مضافين ، والتقديرُ : ولقد خلقنا آباءَكُم ثم صوَّرْنَا آباءَكم ثم قلنا ، ويعني بأبينا آدم - عليه الصلاة والسلام - وإنَّما خاطبه بصيغة الجمع وهو واحد تعظيماً له ، ولأنه أصلُ الجميع ، والتَّرتيب أيضاً واضح .

وقال مجاهدٌ : المعنى خلقناكم في ظَهْرِ آدم ثم صوَّرناكم حين أخذنا عليكم الميثاق{[15797]} . رواه عنه أبُو جريج وابْنُ أبِي نَجِيحٍ .

قال النَّحَّاسُ : وهذا أحْسَنُ الأقْوَالِ يذهب مجاهد إلى أنه خلقهم في ظهر آدم ثُمَّ صوَّرَهُم حين أخذ عليهم الميثاقَ ، ثمَّ كان السُّجُود [ بعد ذلك ]{[15798]} ويُقَوِّي هذا قوله تعالى : { وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بني آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ على أَنفُسِهِمْ } [ الأعراف : 172 ] .

وفي الحديث أنَّهُ أخرجهم أمثال الذَّرِّ ، فأخذ عليهم الميثاق{[15799]} .

وقال بعضهم : المُخَاطِبُ بَنُو آدم ، والمرادُ بهم أبوهم وهذا من باب الخطاب لشَخْصٍ ، والمُرَادُ به غيره كقوله : { وَإِذْ نَجَّيْنَاكُم مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ } [ البقرة : 49 ] ، وإنَّما المُنَجَّى والذي كان يُسَامُ سُوءَ العذاب أسلافهم . وهذا مستفيضٌ في لسانهم . وأنشدوا على ذلك : [ الطويل ]

إذَا افْتَخَرَتْ يَوْماً تَمِيمٌ بِقَوْسِهَا *** وَزَادَتْ عَلَى مَا وطَّدَتْ مِنْ مَنَاقِبِ

فأنْتُمْ بِذِي قَارٍ أَمَالَتْ سُيُوفُكُمْ *** عُرُوشَ الَّذِينَ اسْتَرهَنُوا قَوْسَ حَاجِبِ{[15800]}

وهذه الوَقْعَةُ إنَّما كانت في أسلافهم .

والترَّتيبُ أيضاً واضح على هذا .

ومن قالك إن الأولى للتَّرتيب الزَّماني ، والثَّانية للتَّرْتيب الإخْبَارِيِّ اختلفت عباراتهم أيضاً . فقال بعضهم : المرادُ بالخطابِ الأوَّلِ آدمُ ، وبالثَّاني ذريَّتُهُ ، والترتيب الزَّمانيُّ واضح و " ثُمَّ " الثَّانية للتَّرْتِيب الإخباريِّ .

وقال بعضهم : ولقد خلقناكم في ظهر آدم ثُمَّ صوَّرناكم في بُطُونِ أمهاتكم .

وقال بعضهم : [ ولقد خلقنا ] أرواحكم ثم صوَّرْنَا أجسامكم ، وهذا غَرِيبٌ نقله القَاضِي أبو عليٍّ{[15801]} في " المعتمد " .

وقال بعضهم : خلقناكم نُطَفاً في أصلابِ الرِّجال ، ثُمَّ صوَّرْناكم في أرحام النٍّساءِ .

وقال بعضهم : ولقد خلناكم في بطون أمَّهاتكم وصوَّرناكُم فيها بعد الخلق بِشَقِّ السَّمع والبصرِ ، ف " ثمَّ " الأولى للتَّرتيب الزَّمانيِّ ، والثانية للترتيب الإخباري أي : ثم أخبركم أنا قلنا للملائكة .

وقيل : إنَّ " ثُمَّ " الثانية بمعنى " الواو " [ أي ] وقلنا للملائكة فلا تكون للتَّرتيب .

وقيل : فيه تقديمٌ وتأخير تقديرُهُ : ولقد خلقناكم يعني آدم ، ثمَّ قلنا للملائكة اسجُدُوا ، ثمّ صوَّرنَاكم .

وقال بعضهم : إنَّ الخلق في اللُّغَة عبارة عن التقدير ، وتقدير اللَّه عبارة عن علمه بالأشياء ومشيئته بتخصيص كلِّ شيءٍ بمقداره المعيِّنٍ ، فقوله " خَلَقْنَاكُم " إشارة إلى حكم الله ، وتقديره لإحداث البشر في هذا العالم .

وقوله " صَوَّرْنَاكُم " إشارة إلى أنَّهُ تعالى [ أثبت في اللَّوْحِ المحفوظ صورة كل كائن يحدث ]{[15802]} إلى يوم القيامة ، فخلق الله تعالى عبارة عن حكمه ومشيئته ، والتَّصوير عبارة عن إثْبَاتِ صورة الأشياء في اللَّوحِ المحفوظ . ثم بعد هذين الأمرين أحدث الله تعالى آدم ، وأمر الملائكة بالسُّجود .

قال ابن الخطيب{[15803]} : وهذا التَّأوِيلُ عندي أقْرَبُ من سائر الوُجُوهِ .

وقد تقدَّم الكلامُ في هذا السُّجود ، واختلاف الناس فيه في سورة البقرة .

قوله : " إلاَّ إبليسَ " تقدَّم الكلامُ عليه في البقرة{[15804]} . وكان الحسن يقول : إبليسُ لم يكن من الملائكةِ ؛ لأنه خُلقَ من نارٍ والملائكة من نور لا يستكبرون عن عبادته ، ولا يستحسرون{[15805]} ، و [ هو ليس كذلك فقد عصى إبليس واستكبر ، والملائكةُ ليسوا من الجنِّ وإبليسُ من الجنِّ ، والملائكة رسُلُ اللَّهِ ، وإبليسُ ليس كذلك ، وإبليسُ أوَّلُ خليقة الجنِّ وأبوهم كما أنَّ آدمَ أوَّلُ خليقة الإنس وأبُوهم ، وإبليسُ له ذُرِيَّةٌ والملائكة لا ذُرِّيَّةَ لهم .

قال الحسنُ : ولمَّا كان إبليس مأموراً مع الملائكة استثناه اللَّهُ وكان اسم إبليسَ شيئاً آخر فلما عَصَى اللَّهَ سمَّاهُ بذلك ، وكان مؤمناً عابداً في السَّماءِ حتَّى عصى الله ؛ فأهبط إلى الأرض ]{[15806]} .

قوله : " لَمْ يَكُنْ " هذه الجملة استئنافِيَّةٌ ؛ لأنها جوابُ سؤال مقدَّرٍ ، وهذا كما تقدَّم في قوله في البقرة " أبَى " ، وتقدَّم أنَّ الوقف على إبليس .

وقيل : فائدة هذه الجُمْلَة التَّوكيد لما أخرجه الاستثناء من نفي سجود إبليس .

وقال أبُو البقاءِ{[15807]} : إنَّهَا في محلِّ نصب على الحال أي : إلاَّ إبليس حال كونه ممتنعاً من السُّجُودِ ، وهذا كما تقدَّم{[15808]} له في البقرة من أن " أبَى " في موضع نصب على الحال .


[15797]:أخرجه الطبري في "تفسيره" (5/437) وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (3/134) وزاد نسبته لابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبي الشيخ عن مجاهد.
[15798]:في أ: بعده.
[15799]:أخرجه أحمد في المسند 1/272.
[15800]:البيتان لأبي تمام ينظر: ديوانه 42، الخزانة 1/354، البحر 4/272، الدر المصون 3/239.
[15801]:ينظر: الدر المصون 3/239.
[15802]:في أ: قال.
[15803]:ينظر: تفسير الرازي 14/26.
[15804]:ينظر تفسير سورة البقرة الآيات (40-42).
[15805]:في أ: ولا يعصون.
[15806]:تقدم في البقرة.
[15807]:ينظر: الإملاء 1/269.
[15808]:أي لأبي البقاء. ينظر الإملاء 1/30.