تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{رَبَّنَا لَا تُزِغۡ قُلُوبَنَا بَعۡدَ إِذۡ هَدَيۡتَنَا وَهَبۡ لَنَا مِن لَّدُنكَ رَحۡمَةًۚ إِنَّكَ أَنتَ ٱلۡوَهَّابُ} (8)

ثم قال تعالى عنهم مخبرًا أنهم{[4800]} دعوا ربهم قائلين : { رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا } أي : لا تملها عن الهدى بعد إذ أقمتها عليه ولا تجعلنا كالذين في قلوبهم زيغ ، الذين يتبعون ما تشابه من القرآن ولكن ثبتنا على صراطك المستقيم ، ودينك القويم { وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ } أي : من عندك { رَحْمَةً } تثبت بها قلوبنا ، وتجمع بها شملنا ، وتزيدنا بها إيمانًا وإيقانًا { إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ }

قال ابن أبي حاتم : حدثنا عمرو بن عبد الله الأوْدِي - وقال ابن جرير : حدثنا أبو كُرَيْب - قالا جميعًا : حدثنا وَكِيع ، عن عبد الحميد بن بَهْرام ، عن شهر بن حَوْشَب ، عن أم سلمة ، رضي الله عنها ، أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول : " يا مُقَلِّبَ القلوب ثَبِّتْ قلبي على دينك " ثم قرأ : { رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ } رواه ابن مردويه من طريق محمد بن بَكَّار ، عن عبد الحميد بن بهرام ، عن شهر بن حوشب ، عن أم سلمة ، وهي{[4801]} أسماء بنت يزيد{[4802]} بن السكن ، سمعها تحد ث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يكثر في دعائه : " اللهم مقلب القلوب ، ثبت قلبي على دينك " قالت : قلت : يا رسول الله ، وإن القلب ليتقلب{[4803]} ؟ قال : " نعم ، ما خلق الله من بني آدم من بشر إلا أن قلبه بين أصبعين من أصابع الله عز وجل ، فإن شاء أقامه ، وإن شاء أزاغه " . فنسأل الله ربنا ألا يزيغ قلوبنا بعد إذ هدانا ، ونسأله أن يهب لنا من لدنه رحمة ، إنه هو الوهاب .

وهكذا رواه ابن جرير من حديث أسد بن موسى ، عن عبد الحميد بن بهرام ، به مثله . ورواه أيضًا عن المثنى ، عن الحجاج بن مِنْهَال ، عن عبد الحميد بن بهرام ، به مثله ، وزاد : " قلت{[4804]} يا رسول الله ، ألا تعلمني دعوة أدعو بها لنفسي ؟ قال : " بلى قولي : اللهم رب النبي محمد ، اغفر لي ذنبي ، وأذهب غَيْظ قلبي ، وأجِرْنِي من مُضِلاتِ الفتن " {[4805]} .

ثم قال ابن مردويه : حدثنا سليمان بن أحمد ، حدثنا محمد بن هارون بن بكار الدمشقي ، أخبرنا العباس بن الوليد الخلال ، أخبرنا يزيد بن يحيى بن عبيد الله ، أخبرنا سعيد بن بشير ، عن قتادة ، عن أبي حسان الأعرج{[4806]} عن عائشة ، رضي الله عنها ، قالت : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم كثيرًا ما يدعو : " يا مقلب القلوب ، ثبت قلبي على دينك " ، قلت : يا رسول الله ، ما أكثر ما تدعو بهذا الدعاء . فقال : " ليس من قلب إلا وهو بين أصبعين من أصابع الرحمن ، إذا شاء أن يقيمه أقامه ، وإذا شاء أن يزيغه أزاغه ، أما تسمعين قوله : { رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ } . غريب من هذا الوجه ، ولكن أصله ثابت في الصحيحين ، وغيرهما من طرق كثيرة بدون زيادة ذكر هذه الآية الكريمة .

وقد روى أبو داود والنسائي وابن مردويه ، من حديث أبي عبد الرحمن المقري - زاد النسائي وابن حبان : وعبد الله بن وهب ، كلاهما عن سعيد بن أبي أيوب حدّثني عبد الله بن الوليد التُّجيبي ، عن سعيد بن المسيب ، عن عائشة ، رضي الله عنها ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا استيقظ من الليل قال : " لا إله إلا أنت سبحانك ، اللهم إني أستغفرك لذنبي ، وأسألك رحمة ، اللهم زدني علمًا ، ولا تزغ قلبي بعد إذ هديتني ، وهب لي من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب " لفظ ابن مردويه{[4807]} .

وقال عبد الرزاق ، عن مالك ، عن أبي عبيد - مولى سليمان بن عبد الملك - عن عبادة بن نُسَيّ ، أنه أخبره ، أنه سمع قيس بن الحارث يقول : أخبرني أبو عبد الله الصُنَابِحي ، أنه صلى وراء أبي بكر الصديق المغرب ، فقرأ أبو بكر في الركعتين الأوليين{[4808]} بأم القرآن وسورتين من قصار المفصل ، وقرأ في الركعة الثالثة ، قال : فدنوت منه حتى إن ثيابي لتكاد تمس ثيابه ، فسمعته يقرأ{[4809]} بأم القرآن وهذه الآية : { رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا [ وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ ]{[4810]} {[4811]} } . لا

قال أبو عبيد : وأخبرني عُبَادة بن نُسَيّ : أنه كان عند عمر بن عبد العزيز في خلافته ، فقال عمر لقيس : كيف أخبرتني عن أبي عبد الله الصنابحي فأخبره بما سمع أبا عبد الله ثانيا . قال عمر : فما تركناها منذ سمعناها منه ، وإن كنت{[4812]} قبل ذلك لَعَلَى غير ذلك . فقال له رجل : على أي شيء كان أمير المؤمنين قبل ذلك ؟ قال : كنت أقرأ { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } [ الإخلاص : 1 ] وقد روى هذا الأثر الوليد بن مسلم ، عن مالك والأوزاعي ، كلاهما عن أبي عبيد ، به . ورواه الوليد أيضًا ، عن ابن جابر ، عن يحيى بن يحيى الغساني ، عن محمود بن لبيد ، عن الصُّنَابِحي : أنه صلى خلف أبي بكر ، رضي الله عنه ، المغرب فقرأ في الأوليين بفاتحة الكتاب وسورة قصيرة ، يجهر بالقراءة ، فلما قام إلى الثالثة ابتدأ القراءة فدنوت منه حتى إن ثيابي لتمس ثيابه ، فقرأ هذه الآية : { رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا [ بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ ] {[4813]} } .


[4800]:في جـ، ر: "عنهم".
[4801]:في و: "عن".
[4802]:في أ: "زيد".
[4803]:في و: "ليقلب".
[4804]:في أ، و: "وزاد: "قالت: قلت".
[4805]:ابن أبي حاتم في تفسيره (2/84) والطبري في تفسيره (6/213) ورواه أحمد في المسند (6/315) والترمذي في السنن (3522) وابن أبي عاصم في السنة برقم (223) من طريق أبي كعب صاحب الحرير عن شهر بن حوشب به. وللحديث شواهد عن عائشة وأنس وجابر والنواس بن سمعان رضي الله عنهم.
[4806]:في هـ، جـ، ر، أ: "عن حسان الأعرج".
[4807]:أبو داود في السنن برقم (5061) والنسائي في الكبرى برقم (10701).
[4808]:في ر: "الأولتين".
[4809]:في و: "يقرأ أي في الثالثة".
[4810]:زيادة من جـ، ر، أ، و، وفي هـ: "الآية".
[4811]:رواه مالك في الموطأ (1/79).
[4812]:في أ: "كعب".
[4813]:زيادة من جـ، ، أ، و، وفي هـ: "الآية".
 
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي - البيضاوي [إخفاء]  
{رَبَّنَا لَا تُزِغۡ قُلُوبَنَا بَعۡدَ إِذۡ هَدَيۡتَنَا وَهَبۡ لَنَا مِن لَّدُنكَ رَحۡمَةًۚ إِنَّكَ أَنتَ ٱلۡوَهَّابُ} (8)

{ ربنا لا تزغ قلوبنا } من مقال الراسخين . وقيل : استئناف والمعنى لا تزغ قلوبنا عن نهج الحق إلى اتباع المتشابه بتأويل لا ترتضيه ، قال صلى الله عليه وسلم " قلب ابن آدم بين أصبعين من أصابع الرحمن ، إن شاء أقامه على الحق وإن شاء أزاغه عنه " . وقيل : لا تبلنا ببلايا تزيغ فيها قلوبنا . { بعد إذ هديتنا } إلى الحق والإيمان بالقسمين . من المحكم والمتشابه ، وبعد نصب على الظرف ، وإذ في موضع الجر بإضافته إليه . وقيل إنه بمعنى إن { وهب لنا من لدنك رحمة } تزلفنا إليك ونفوز بها عندك ، أو توفيقا للثبات على الحق أو مغفرة للذنوب . { إنك أنت الوهاب } لكل سؤال ، وفيه دليل على أن الهدى والضلال من الله وأنه متفضل بما ينعم على عباده لا يجب عليه شيء .