البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{رَبَّنَا لَا تُزِغۡ قُلُوبَنَا بَعۡدَ إِذۡ هَدَيۡتَنَا وَهَبۡ لَنَا مِن لَّدُنكَ رَحۡمَةًۚ إِنَّكَ أَنتَ ٱلۡوَهَّابُ} (8)

الهبة : العطية المتبرع بها ، يقال : وهب يهب هبة ، وأصله : أن يأتي المضارع على يفعِل ، بكسر يالعين .

ولذلك حذفت الواو لوقوعها بين ياء وكسرة ، لكن لما كانت العين حرف حلق فتحت مع مراعاة الكسرة المقدرة ، وهو نحو : وضع يضع ، إلاَّ أن هذا فتح لكون لامه حرف حلق ، والأصل فيهما : يوهب ويوضع .

ويكون : وهب ، بمعنى جعل ، ويتعدى إذ ذاك إلى مفعولين ، تقول العرب : وهبني الله فداك ، أي : جعلني الله فداك .

وهي في هذا الوجه لا تتصرف ، فلا تستعمل منها بهذا المعنى إلاَّ الفعل الماضي خاصة .

لدن : ظرف ، وقل أن تفارقها : من ، قاله ابن جني ، ومعناها : ابتداء الغاية في زمان أو مكان ، أو غيره من الذوات غير المكانية ، وهي مبنية عند أكثر العرب ، وإعرابها لغة قيسية ، وذلك إذا كانت مفتوحة اللام مضمومة الدال بعدها النون ، فمن بناها قيل : فأشبهها بالحروف في لزوم استعمال واحد ، وامتناع الإخبار بها ، بخلاف : عند ، ولدى .

فإنهما لا يلزمان استعمالاً واحداً ، فإنهما يكونان لابتداء الغاية ، وغير ذلك ، ويستعملان فضلة وعمدة ، فالفضلة كثير ، ومن العمدة { وعنده مفاتح الغيب } { ولدينا كتاب ينطق بالحق } وأوضح بعضهم علة البناء فقال : علة البناء كونها تدل على الملاصقة للشيء وتختص بها ، بخلاف : عند ، فإنها لا تختص بالملاصقة ، فصار فيها معنى لا يدل عليه الظرف ، بل هو من قبيل ما يدل عليه الحرف ، فهي كأنها متضمنة للحرف الذي كان ينبغي أن يوضع دليلاً على القرب .

ومثله : ثم ، و : هنا . لأنهما بُنيا لما تضمنا معنى الحرف الذي كان ينبغي أن يوضع ليدل على الإشارة .

ومن أعربها ، وهم قيس ، فتشبيهاً : بعند ، لكون موضعها صالحاً لعند ، وفيها تسع لغات غير الأولى : لَدُن ، ولُدْنُ ، ولَدْنٌ ، ولَدِنٌ ، ولَدُنِ ، ولَدٌ ولُدْ ، ولَدْ ولَتْ .

بإبدال الدال تاء ، وتضاف إلى المفرد لفظاً كثيراً ، وإلى الجملة قليلاً .

فمن إضافتها إلى الجملة الفعلية قول الشاعر :

صريع عوانٍ راقهن ورُقنَهُ *** لدن شب حتى شاب سود الذوائبِ

وقال الآخر :

لزمنا لدن سالتمونا وفاقكم *** فلا يك منكم للخلاف جنوحُ

ومن إضافتها إلى الجملة الإسمية قول الشاعر :

تذكر نعماه لدن أنت يافع *** إلى أنت ذو فودين أبيض كالنسر

وجاء إضافتها إلى : أن والفعل ، قال :

وليت فلم يقطع لدن أن وليتنا *** قرابة ذي قربى ولا حق مسلم

وأحكام لدن كثيرة ذكرت في علم النحو .

{ ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا } ويحتمل أن يكون هذا من جملة المقول أي : يقولون ربنا ، وكأنهم لما رأوا انقسام الناس إلى زائغ ، ومتذكر مؤمن ، دعوا الله تعالى بلفظ الرب أن لا يزيغ قلوبهم بعد هدايتهم ، فيلحقوا بمن في قلبه زيغ ، ويحتمل أن يكون تعالى علمهم هذا الدعاء ، والتقدير : قولوا ربنا .

ومعنى الإزاغة هنا الضلالة .

وفي نسبة ذلك إليه تعالى رد على المعتزلة في قولهم : إن الله لا يضل ، إذ لو لم تكن الإزاغة من قبله تعالى لما جاز أن يدعى في رفع ما لا يجوز عليه فعله .

وقال الزجاج : المعنى : لا تكلفنا عبادة ثقيلة تزيغ بها قلوبنا ، وهذا القول فيه التحفظ من خلق الله الزيغ والضلالة في قلب أحد من العباد .

وقال ابن كيسان : سألوا أن لا يزيغوا ، فيزيغ الله قلوبهم ، نحو : { فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم } أي : ثبتنا على هدايتك ، وأن لا نزيغ ، فنستحق أن تزيغ قلوبنا .

وهذه نزعة إعتزالية ، كما قال الجبائي : لا تمنعها الألطاف التي بها يستمر القلب على صفة الإيمان .

ولما منعهم الألطاف لاستحقاقهم منع ذلك ، جاز أن يقال : أزاغهم ، ويدل عليه : فلما زاغوا .

وقال الجبائي أيضاً : لا تزغنا عن جنتك وثوابك .

وقال أبو مسلم : أحرسنا من الشيطان وشر أنفسنا حتى لا نزيغ .

وقال الزمخشري : لا تبلنا ببلايا تزيغ فيها قلوبنا ، أو : لا تمنعنا ألطافك بعد أن لطفت بنا . انتهى .

وهذه مسألة كلامية : هل الله تعالى خالق الشر كما هو خالق الخبر ؟ أو لا يخلق الشر ؟ فالأول : قول أهل السنة .

والثاني : قول المعتزلة .

وكل يفسر على مذهبه .

وقرأ الصديق ، وأبو قائلة ، والجراح : لا تزغ قلوبنا ، بفتح التاء ورفع الباء وقرأ بعضهم : لا يزغ بالياء مفتوحة ، ورفع باء قلوبنا ، جعله من زاغ ، وأسنده إلى القلوب .

وظاهره نهي القلوب عن الزيغ ، وإنما هو من باب : لا أرينك هاهنا .

ولا أعرفن ربرباً حوراً مدامعه *** أي : لا تزغنا فتزيغ قلوبنا بعد إذ هديتنا .

ظاهره الهداية التي هي مقابلة الضلال وقيل : بعد اذ هديتنا للعلم بالمحكم ، والتسليم للمتشابه من كتابك ، و : إِذ ، أصلها أن تكون ظرفاً ، وهنا أضيف إليها : بعد ، فصارت إسماً غير ظرف ، وهي كانت قبل أن تخرج عن الظرفية تضاف إلى الجملة ، واستصحب فيها حالها من الإضافة إلى الجملة ، وليست الإضافة إليها تخرجها عن هذا الحكم .

ألا ترى إلى قوله تعالى : { هذا يوم ينفع الصادقين } { يوم لا تملك } في قراءة من رفع يوم ؟ وقول الشاعر .

على حين عاتبت المشيب على الصبا *** على حين من تكتب عليه ذنوبه

على حين الكرام قليل *** ألا ليت أيام الصفاء جديد

كيف خرج الظرف هنا عن بابه ، واستعمل خبراً ومجروراً بحرف الجر ، واسم ليت ، وهو مع ذلك مضاف إلى الجملة ؟ .

{ وهب لنا من لدنك رحمة } سألوا بلفظ الهبة المشعرة بالتفضل والإحسان إليهم من غير سبب ولا عمل ولا معاوضة ، لأن الهبة كذلك تكون ، وخصوها بأنها من عنده ، والرحمة إن كانت من صفات الذات فلا يمكن فيها الهبة ، بل يكون المعنى : نعيماً ، أو ثواباً صادراً عن الرحمة .

ولما كان المسؤول صادراً عن الرحمة ، صح أن يسألوا الرحمة إجراءً للسبب مجرى المسبب وقيل : معنى رحمة توفيقاً وسداداً وتثبيتاً لما نحن عليه من الإيمان والهدى .

{ إنك أنت الوهاب } هذا كالتعليل لقولهم : وهب لنا ، كقولك : حل هذا المشكل إنك أنت العالم بالمشكلات ، وأتى بصيغة المبالغة التي على فعال ، وإن كانوا قد قالوا : وهوب ، لمناسبة رؤوس الآي ، ويجوز في : أنت ، التوكيد للضمير ، والفصل ، والابتداء .

/خ11