اعلم أنه تعالى لمَّا حكى عن الراسخين أنهم يقولون : " آمنا به " ، حكى أنهم يقولون : ربنا لا تزغ قلوبنا وحذف يقولون ؛ لدلالة الأول عليه ، كما في قوله : { وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَآ مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلا }
قال القرطبيُّ : ويجوز أن يكون المعنى : قل يا محمدُ .
قوله : " لا تُزغْ " العامة على ضَمِّ حَرْف المضارعةِ ، من أزاغ يزيغ ، و " قُلُوبَنَا " مفعول به ، وقرأ أبو بكر بن فايد وأبو واقد الجراح : " لا تَزغْ قُلُوبُنَا " - بفتح التاء{[5099]} ، ورفع " قُلُوبُنَا " ، وقرأ بعضهم{[5100]} كذلك إلا أنه بالياء من تحت ، وعلى القراءتين ، فالقلوب فاعل بالفعل المنهي عنه ، والتذكير والتأنيث باعتبار تأنيثِ الجمع وتذكيره ، والنهي في اللفظ للقلوب ، وفي المعنى دعاء لله تعالى - أي : لا تزغ قلوبنا فتزيغ ، فهو من باب " لا أرَينَّكَ ههُنَا " .
لا أعرِفَن رَبْرَباً حُوراً مَدَامِعُهَا *** . . . {[5101]}
قوله : { بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا } ، " بَعْدَ " منصوب ب " لا تُزِغْ " ، و " إذْ " هنا خرجت عن الظرفية ؛ للإضافة إليها وقد تقدم أن تصرفها قليل ، وإذا خرجت عن الظرفيةِ ، فلا يتغير حكمها من لزوم إضافتها إلى الجملة بعدها ، كما لم يتغير غيرها من الظروف في هذا الحكمِ ، ألا ترى إلى قوله { هَذَا يَوْمُ يَنفَعُ } [ المائدة : 119 ] و { يَوْمَ لاَ تَمْلِكُ } [ الانفطار : 19 ] - قراءة من رفع " يومُ " في الموضعين - .
*** . . . عَلَى حِينِ الكِرَامُ قَلِيلُ{[5102]}
وقوله : [ الطويل ]{[5103]}
عَلى حِينِ مَنْ تَلْبَثْ عَلَيْهِ ذُنُوبهُ *** . . . {[5104]}
عَلَى حِينِ عَاتَبْتُ الْمَشِيْبَ عَلَى الصِّبَا *** . . . {[5105]}
أَلا لَيْتَ أَيَّامَ الصَّفَاء جَدِيدُ *** . . . {[5106]}
كيف خرجت هذه الظروف عن النصب إلى الرفع والجر والنصب ب " لَيْت " ، ومع ذلك هي مضافةٌ للجمل التي بعدها .
هذه الآية تدل على أن الزيغَ والهداية خلق الله تعالى ، قال أهل السنة : ذلك لأن القلب صالح لأن يميلَ إلى الكفر ، ويمتنع أن يميل إلى أحد الجانبين ، إلا عند حدوث داعية وإرادة أحدثها الله تعالى .
فإن كانت تلك الداعية [ داعية ] {[5107]} الكفر ، فهي الخذلان ، والإزاغة ، والصد ، والختم ، والرَّيْن ، والقسوة والوقر والكنان ، وغيرها من الألفاظ الواردة في القرآن .
وإن كانت تلك الداعيةُ داعيةَ الإيمان ، فهي التوفيق ، والإرشاد ، والهداية ، والتسديد ، والتثبيت ، والعصمة وغيرها من الألفاظ الواردة في القرآن ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " قَلْبُ المؤمن بَيْنَ أصبعينِ مِنْ أصابعِ الرَّحْمَنِ ، إنْ شَاءَ أقامه ، وإن شاء أزاغَهُ{[5108]} " ، والمرادُ من هذين الأصبعين الداعيتان ، وكان صلى الله عليه وسلم يقول :
" اللَّهُمَّ مُقَلِّبَ القلوب والأبصار ثَبِّتْ قُلُوبَنَا عَلَى دينك{[5109]} " ومعناه ما ذكرنا ، وقال صلى الله عليه وسلم : " مَثَلُ الْقلبِ كَرِيشَةٍ بأرْضٍ فَلاَةٍ تُقلبُهَا الرِّياحُ ظَهْراً لِبَطْنٍ {[5110]} " .
وقالت المعتزلةُ : الزيغُ لا يجوز أن يكون بفعل الله ؛ لقوله تعالى : { فَلَمَّا زَاغُواْ أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ } [ الصف : 5 ] ، وهذا صريح في أن ابتداء الزيغ منهم .
والجوابُ : أن مذهبهم أن كل ما صح في قدرة الله تعالى أن يفعل في حقهم لُطْفاً ، وجب عليه ذلك وجوباً لو تركه لبطلت إلاهيته ، ولصار محتاجاً ، والشيء الذي يكون كذلك فأي حاجةٍ إلى طلبه بالدعاء ؟
فإن قيل : فما الجواب عن قوله : { فَلَمَّا زَاغُواْ أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ } [ الصف : 5 ] ؟
قلنا : لا يبعد أن الله تعالى يُزيغهم ابتداء ، فعند ذلك يزيغون ، ثم يترتب على الزيغ إزاغة أخرى سوى الأولى من الله تعالى ، ولا منافاةَ فيه .
وقوله : { بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا } ، أي : جعلتنا مهتدين ، وهذا صريحٌ أيضاً في أن حصولَ الاهتداءِ في القلب بتخليق اللهِ تعالى .
قوله : { وَهَبْ لَنَا } الهِبَة : العَطِيَّة ، حذفت فاؤها ، وكان حق عين المضارع منها كسر العين منه ، إلا أن ذلك منعه كونُ العين حرفَ حَلْقٍ ، فالكسرة مقدَّرة ، فلذلك اعتبِرَت تلك الكسرةُ المقدرةُ فحذفت لها الواو وهذا نحو : " يضع " و " يسع " ، لكون اللام حرف حلقٍ ، ويكون " هَبْ " فعل أمر بمعنى اعتقد ، فيتعدى لمفعولين .
. . . *** وَإلاَّ فَهَبْنِي أمْرَأ هالِكا{[5111]}
ويقال أيضاً : وَهَبني الله فِداك ، أي : جعلني ، ولا يتصرف أيضاً عن الماضي بهذا المعنى .
قوله : " مِنْ لَدُنْكَ " متعلق ب " هَبْ " ، و " لَدُنْ " ظرف ، وهي لأول غاية زمان أو مكان ، أو غيرها من الذوات نحو : من لدن زيد ، فليست مرادفة لِ " عِنْد " ، بل قد تكون بمعناها ، وبعضهم يقيدها بظرف المكانِ ، وتضاف لصريح الزمانِ .
تنتَهِضُ الرِّعْدَةُ فِي ظُهَيْرِي *** مِن لَدُنِ الظُّهْرِ إلَى الْعُصَيْرِ{[5112]}
ولا يُقْطع عن الإضافة بحال ، وأكثر ما تضاف إلى المفردات ، وقد تُضاف إلى " أنْ " وَصِلَتها ؛ لأنهما بتأويل مفردٍ .
وُلِيتَ فَلَمْ تَقْطَعْ لَدُنْ أنْ وَلِيتَنَا *** قَرَابَةَ ذِي قُرْبَى وَلاَ حَقَّ مُسْلِمِ{[5113]}
أي : لدن ولايتك إيانا ، وقد تضاف إلى الجملة الاسمية .
وَتَذْكُرُ نُعْمَاهُ لَدُنْ أنْتَ يَافِعٌ *** إلَى أنْتَ ذُو فَؤْديْنِ أبيضَ كَالنَّسْرِ{[5114]}
لزمْنَا لَدُنْ سَالَمْتُمُونَا وِفَاقَكُمْ *** فَلاَ يَكُ مِنْكُمْ لِلْخِلاَفِ جُنُوحُ{[5115]}
صَرِيعُ غَوانٍ رَاقَهُنَّ وَرُقْنَهُ *** لَدُنْ شَبَّ حَتَّى شَابَ سُودُ الذَّوَائِبِ{[5116]}
وفيها لغتان : الإعراب ، وهي لغة قَيْس ، وبها قَرَأ أبو بكر{[5117]} عن عاصم { مِنْ لَدُنِهِ } [ النساء : 40 ] - بجر النون - ، وقوله : [ الرجز ]
. . . *** مَنْ لَدُنِ الظُّهْرِ إلَى العُصَيْرِ{[5118]}
ولا تخلو من " من " غالباً ، قاله ابنُ جني ، ومن غير الغالب ما تقدم من قوله :
. . . لَدُنْ أنت يافع *** . . . {[5119]}-
وإن وقع بعدها لفظ " غدوة " خاصة - جاز نصبها ، ورفعها ، فالنصب على خبر " كان " أو التمييز والرفع على إضمار " كَانَ " التامة ، ولولا هذا التقدير لزم إفراد " لَدُن " عن الإضافة ، وقد تقدم أنه لا يجوز ، فمن نَصْب " غدوة " قوله : [ الطويل ]
فَمَا زَالَ مُهْرِي مَزْجَرَ الْكَلْبِ مِنْهُمُ *** لَدُنْ غُدْوَةً حَتَّى دَنَتْ لِغُرُوبِ{[5120]}
واللغةُ المشهورةُ بناؤها ؛ لشبهها بالحرف في لزوم استعمالٍ واحدٍ ، وامتناع الإخبار بها ، بخلاف " عند " ، و " لدن " فإنهما لا يلزمان استعمالاً واحداً ؛ إذ يكون فضلةً ، وعُمدةً ، وغايةً وغير غاية ، بخلاف " لَدُن " .
وقال بعضهم : " علة بنائِها كونها دالة على الملاصقة ، ومختصةً بها ، بخلاف " عند " فإنها لا تدل على الملاصقة ، فصار فيها معنى لا يدل عليه الظرف ، بل هو من قبيل ما يدل عليه الحرف{[5121]} ، فكأنها مضمنة معنى حرف كان من حقه أن يوضَع لذلك ، فلم يُوضَع ، كما قالوا في اسم الإشارةِ ، واللغتان المذكورتان من الإعراب والبناء مختصتان ب " لَدُنْ " المفتوحة اللام ، المضمومة الدال ، الواقع آخرُها نونٌ ، وأما بقية لغاتها فهي - فيها - مبنية عند جميع العرب ، وفيها عشر لغاتٍ : أشهرها الأولى ، ولدَن ، ولدِن - بفتح الدال وكسرها - ولَدْنِ ، ولُدنِ - بفتح اللام وضمها ، مع سكون الدالِ وكسر النونِ - ولُدْنَ - بالضم والسكون وفتح النون - ، ولَدْ ، ولُدْ - بفتح اللام وضمها مع سكون الدالِ ، ولَدُ - بفتح اللام وضم الدال ولت - بإبدال الدال تاءً ساكنةً ، ومتى أضيفت المحذوفة النون إلى ضمير وجب رَدُّ النون .
قوله : { أَنْتَ الْوَهَّابُ } " أنت " يحتمل أن يكون مبتدأ ، وأن يكون ضميرَ الفصل ، وأن يكون تأكيداً لاسم " إنَّ " .
اعلم أن هؤلاء المؤمنين سألوا ربهم ألا يَجْعَل قلوبَهُم مائلةً إلى العقائد الفاسدة ثم أتبعوا ذلك بطلب تنوير قلوبهم .
وقال " رحمة " ؛ ليشمل جميع أنواع الرحمةِ ، ولما ثبت بالبرهان القاطع أنه لا رحيمَ إلا هو أكد ذلك بقوله : { مِن لَّدُنْكَ } تنبيهاً للعقل على أن المقصود لا يحصل إلا منه .
وقوله : { أَنْتَ الْوَهَّابُ } كأن العبد يقول : إلهي هذا الذي طلبته منك بهذا الدعاء بالنسبة إليّ - حقير - بالنسبة إلى كمال كرمك ، وغاية جودِك ورحمتك ؛ فإنك أنت الوهاب .