تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{فَلَا تُعۡجِبۡكَ أَمۡوَٰلُهُمۡ وَلَآ أَوۡلَٰدُهُمۡۚ إِنَّمَا يُرِيدُ ٱللَّهُ لِيُعَذِّبَهُم بِهَا فِي ٱلۡحَيَوٰةِ ٱلدُّنۡيَا وَتَزۡهَقَ أَنفُسُهُمۡ وَهُمۡ كَٰفِرُونَ} (55)

يقول تعالى لرسوله ، صلوات الله وسلامه عليه : { فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ } كما قال تعالى : { وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى } [ طه : 131 ]

وقال : { أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَل لا يَشْعُرُونَ } [ المؤمنون : 55 ، 56 ]

وقوله : { إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا } قال الحسن البصري : بزكاتها ، والنفقة منها في سبيل الله .

وقال قتادة : هذا من المقدم والمؤخر ، تقديره : فلا تعجبك أموالهم ولا أولادهم ، [ في الحياة الدنيا ]{[13551]} إنما يريد الله ليعذبهم بها [ في الآخرة ]{[13552]} واختار ابن جرير قول الحسن ، وهو القول القَوي الحسن .

وقوله : { وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ } أي : ويريد أن يميتهم حين يميتهم على الكفر ، ليكون ذلك أنكى لهم وأشد لعذابهم ، عياذا بالله من ذلك ، وهذا يكون من باب الاستدراج لهم فيما هم فيه .


[13551]:- زيادة من ت ، ك ، أ.
[13552]:- زيادة من ت ، ك ، أ.
 
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{فَلَا تُعۡجِبۡكَ أَمۡوَٰلُهُمۡ وَلَآ أَوۡلَٰدُهُمۡۚ إِنَّمَا يُرِيدُ ٱللَّهُ لِيُعَذِّبَهُم بِهَا فِي ٱلۡحَيَوٰةِ ٱلدُّنۡيَا وَتَزۡهَقَ أَنفُسُهُمۡ وَهُمۡ كَٰفِرُونَ} (55)

القول في تأويل قوله تعالى : { فَلاَ تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلاَدُهُمْ إِنّمَا يُرِيدُ اللّهُ لِيُعَذّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ } .

اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك ، فقال بعضهم : معناه : فلا تعجبك يا محمد أموال هؤلاء المنافقين ولا أولادهم في الحياة الدنيا ، إنما يريد الله ليعذبهم بها في الاَخرة . وقال : معنى ذلك : التقديم وهو مؤخر . ذكر من قال ذلك :

حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : فَلا تُعْجِبْكَ أمْوَالُهُمْ وَلا أوْلادُهُمْ قال : هذه من تقاديم الكلام ، يقول : لا تعجبك أموالهم ولا أولادهم في الحياة الدنيا ، إنما يريد الله ليعذبهم بها في الاَخرة .

حدثنا المثنى ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : إنّمَا يُرِيدُ اللّهُ لِيُعَذّبَهُمْ بِها فِي الاَخِرَةِ .

وقال آخرون : بل معنى ذلك : إنما يريد الله ليعذبهم بها في الحياة الدنيا ، بما ألزمهم فيها من فرائضه . ذكر من قال ذلك :

حُدثت عن المسيب بن شريك ، عن سلمان الأقصري ، عن الحسن : إنّمَا يُرِيدُ اللّهُ لِيُعَذّبَهُمْ بِها فِي الحَياةِ الدّنْيا قال : بأخذ الزكاة والنفقة في سبيل الله تعالى .

حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : إنّمَا يُرِيدُ اللّهُ لِيُعَذّبَهُمْ بِها فِي الحَياةِ الدّنْيا بالمصائب فيها ، هي لهم عذاب وهي للمؤمنين أجر .

قال أبو جعفر : وأولى التأويلين بالصواب في ذلك عندنا ، التأويل الذي ذكرنا عن الحسن ، لأن ذلك هو الظاهر من التنزيل ، فصرف تأويله إلى ما دلّ عليه ظاهره أولى من صرفه إلى باطن لا دلالة على صحته ، وإنما وجه من وجه ذلك إلى التقديم وهو مؤخر ، لأنه لم يعرف لتعذيب الله المنافقين بأموالهم وأولادهم في الحياة الدنيا وجها يوجهه إليه ، وقال : كيف يعذّبهم بذلك في الدنيا ، وهي لهم فيها سرور ، وذهب عنه توجيهه إلى أنه من عظيم العذاب عليه إلزامه ما أوجب الله عليه فيها من حقوقه وفرائضه ، إذ كان يلزمه ويؤخذ منه وهو غير طيب النفس . ولا راج من الله جزاء ولا من الاَخذ منه حمدا ولا شكرا على ضجر منه وكره .

وأما قوله : وَتَزْهَقَ أنْفُسُهُمْ وَهُمْ كافِرُونَ فإنه يعني : وتخرج أنفسهم ، فيموتوا على كفرهم بالله وجحودهم نبوّة نبيّ الله محمد صلى الله عليه وسلم ، يقال منه : زَهَقَتْ نفس فلان ، وزَهِقَتْ ، فمن قال : زَهَقَت ، قال : تَزْهَقُ ، ومن قال : زَهِقَتْ ، قال : تَزْهِقُ زُهُوقا ومنه قيل : زَهَق فلان بين أيدي القوم يَزْهَقُ زُهُوقا : إذا سبقهم فتقدمهم ، ويقال : زَهَقَ الباطل : إذا ذهب ودرس .

 
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي - البيضاوي [إخفاء]  
{فَلَا تُعۡجِبۡكَ أَمۡوَٰلُهُمۡ وَلَآ أَوۡلَٰدُهُمۡۚ إِنَّمَا يُرِيدُ ٱللَّهُ لِيُعَذِّبَهُم بِهَا فِي ٱلۡحَيَوٰةِ ٱلدُّنۡيَا وَتَزۡهَقَ أَنفُسُهُمۡ وَهُمۡ كَٰفِرُونَ} (55)

{ فلا تعجبك أموالهم ولا أولادهم } فإن ذلك استدراج ووبال لهم كما قال . { إنما يريد الله ليعذبهم بها في الحياة الدنيا } بسبب ما يكابدون لجمعها وحفظها من المتاعب وما يرون فيها من الشدائد والمصائب . { وتزهق أنفسهم وهم كافرون } فيموتوا كافرين مشتغلين بالتمتع عن النظر في العاقبة فيكون ذلك استدراجا لهم . وأصل الزهوق الخروج بصعوبة .

 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{فَلَا تُعۡجِبۡكَ أَمۡوَٰلُهُمۡ وَلَآ أَوۡلَٰدُهُمۡۚ إِنَّمَا يُرِيدُ ٱللَّهُ لِيُعَذِّبَهُم بِهَا فِي ٱلۡحَيَوٰةِ ٱلدُّنۡيَا وَتَزۡهَقَ أَنفُسُهُمۡ وَهُمۡ كَٰفِرُونَ} (55)

تفريع على مذمّة حالهم في أموالهم ، وأن وفرة أموالهم لا توجب لهم طُمَأنِينَة بال ، بإعلام المسلمين أنّ ما يرون بعض هؤلاء المنافقين فيه من متاع الحياة الدنيا لا ينبغي أن يكون محلّ إعجاب المؤمنين ، وأن يحسبوا المنافقين قد نالوا شيئاً من الحظّ العاجل ببيان أنّ ذلك سبب في عذابهم في الدنيا .

فالخطاب للنبيء صلى الله عليه وسلم والمراد تعليم الأمّة .

ومعنى هذه الآية : أنّ الله كشف سرّاً من أسرار نفوس المنافقين بأنّه خلق في نفوسهم شحّاً وحرصاً على المال وفتنة بتوفيره والإشفاق من ضياعه ، فجعلهم بسبب ذلك في عناء وعذاب من جرّاء أموالهم ، فهم في كَبَد من جمعها . وفي خوف عليها من النقصان ، وفي ألم من إنفاق ما يلجئهم الحال إلى إنفاقه منها ، فقد أراد الله تعذيبهم في الدنيا بما الشأن أن يكون سبب نعيم وراحة ، وتمّ مراده . وهذا من أشدّ العقوبات الدنيوية وهذا شأن البخلاء وأهل الشحّ مطلقاً ، إلاّ أنّ المؤمنين منهم لهم مسلاة عن الرزايا بما يرجون من الثواب على الإنفاق أو على الصبر . ثم يجوز أن يكون هذا الخلق قد جبلهم الله عليه من وقت وجودهم فيكون ذلك من جملة بواعث كفرهم ونفاقهم ، إذ الخلق السيّء يدعو بعضه بعضاً ، فإنّ الكفر خُلق سيّء فلا عجب أن تنساق إليه نفس البخيل الشحيح ، والنفاق يبعث عليه الخلقُ السيّء من الجُبن والبخل ، ليتقّي صاحبه المخاطر ، وكذلك الشأن في أولادهم إذ كانوا في فتنة من الخوف على إيمان بعض أولادهم ، وعلى خلاف بينهم وبين بعض أولادهم الموفّقين إلى الإسلام : مثل حنظلة : ابن أبي عامر الملقّببِ غَسيلَ الملائكة ، وعبد الله بننِ عبدِ الله بننِ أُبي فكان ذلك من تعذيب أبويهما .

ولكون ذكر الأولاد كالتكملة هنا لزيادة بيان عدم انتفاعهم بكلّ ما هو مظنّة أن ينتفع به الناس ، عُطف الأولاد بإعادة حرف النفي بَعْد العاطف ، إيماء إلى أنّ ذكرهم كالتكملة والاستطراد .

واللام في { ليعذّبهم } للتعليل : تعلّقت بفعل الإرادة للدلالة على أنّ المراد حكمة وعلّة فتغني عن مفعول الإرادة ، وأصل فعل الإرادة أن يعدَّى بنفسه كقوله تعالى : { يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر } [ البقرة : 185 ] ويعدّى غالباً باللام كما في هذه الآية وقوله تعالى : { يريد الله ليبين لكم } في سورة النساء ( 26 ) وقول كُثيّرِ :

أريدُ لأنْسَى حُبَّها فكأنما *** تَمَثَّلُ لِي ليلَى بكلّ مكان

وربما عَدَّوه باللام وكَي مبالغةً في التعليل كقول قيس بن عُبادة :

أردتُ لكيما يعلمَ الناس أنّها *** سراويلُ قيس والوفُود شهود

وهذه اللام كثير وقوعها بعد مادة الإرادة ومادة الأمر . وبعضُ القرّاء سمّاها ( لام أنْ ) بفتح الهمزة وتقدم عند قوله تعالى : { يريد الله ليبين لكم } في سورة النساء ( 26 ) .

فقوله : { في الحياة الدنيا } متعلّق ب { يعذبهم } ومحاولة التقديم والتأخير تعسّف وعطف { وتزهق } على { ليعذبهم } باعتبار كونه أراده الله لهم عندما رزقهم الأموال والأولاد فيعلم منه : أنّه أراد موتهم على الكفر ، فيستغرق التعذيبُ بأموالهم وأولادهم حياتَهم كلّها ، لأنّهم لو آمنوا في جزء من آخر حياتهم لحصل لهم في ذلك الزمن انتفاع ما بأموالهم ولو مع الشحّ .

وجملة : { وهم كافرون } في موضع الحال من الضمير المضاف إليه لأنّه إذا زهقت النفس في حال الكفر فقد مات كافراً .

والإعجاب استحسان مشوب باستغراب وسرور من المرئي قال تعالى : { ولو أعجبك كثرة الخبيث } [ المائدة : 100 ] أي استحسنت مرأى وفرة عدده .

و ( الزهوق ) الخروج بشدّة وضيق ، وقد شاع ذكره في خروج الروح من الجسد ، وسيأتي مثل هذه الآية في هذه السورة .