وقوله : { فَلَمَّا بَلَغَا مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا نَسِيَا حُوتَهُمَا } ، وذلك أنه كان قد أمر بحمل حوت مملوح معه ، وقيل له : متى فقدتَ الحوت فهو ثَمّة . فسارا حتى بلغا مجمع البحرين ؛ وهناك عين يقال لها : " عين الحياة " ، فناما هنالك ، وأصاب الحوت من رشاش ذلك الماء فاضطرب{[18308]} ، وكان في مكتل مع يوشع [ عليه السلام ]{[18309]} ، وطَفَر من المَكْتل إلى البحر ، فاستيقظ يُوشع ، عليه السلام ، وسقط الحوت في البحر وجعل يسير فيه ، والماء له مثل الطاق لا يلتئم بعده ؛ ولهذا قال : { فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَبًا } أي : مثل السَرَب في الأرض .
قال ابن جريح{[18310]} : قال ابن عباس : صار أثره كأنه حَجَر .
وقال العوفي ، عن ابن عباس : جعل الحوت لا يمس شيئًا من البحر إلا يبس حتى يكون صخرة{[18311]} .
وقال محمد - [ هو ]{[18312]} بن إسحاق - عن الزهري ، عن عُبيد الله بن عبد الله ، عن ابن عباس ، عن أبيّ بن كعب قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم حين ذكر حديث ذلك : " ما انجاب ماء منذ كان الناس غيره ثبت{[18313]} مكان الحوت الذي فيه ، فانجاب كالكُوّة حتى رجع إليه موسى فرأى مسلكه " ، فقال : { ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ } .
وقال قتادة : سَرب من البر{[18314]} ، حتى أفضى إلى البحر ، ثم سلك فيه فجعل لا يسلك فيه طريقًا إلا جعل{[18315]} ماء جامدًا .
القول في تأويل قوله تعالى : { فَلَمّا بَلَغَا مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا نَسِيَا حُوتَهُمَا فَاتّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَباً } .
يعني تعالى ذكره : فلما بلغ موسى وفتاه مجمع البحرين ، كما :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحرث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله مَجْمَعَ بَيْنِهِما قال : بين البحرين .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، مثله .
وقوله : نَسيا حُوَتهُما يعني بقوله : نسيا : تركا ، كما :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد نَسيَا حُوَتهُما قال : أضلاه .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، قال : أضلاه .
قال بعض أهل العربية : إن الحوت كان مع يوشع ، وهو الذي نسيه ، فأضيف النسيان إليهما ، كما قال : يَخْرُجُ مِنْهُما اللّؤْلُؤُ والمَرْجانُ وإنما يخرج من الملح دون العذب .
وإنما جاز عندي أن يقال : نَسِيا لأنهما كانا جميعا تزوّداه لسفرهما ، فكان حمل أحدهما ذلك مضافا إلى أنه حمل منهما ، كما يقال : خرج القوم من موضع كذا ، وحملوا معهم كذا من الزاد ، وإنما حمله أحدهما ولكنه لما كان ذلك عن رأيهم وأمرهم أضيف ذلك إلى جميعهم ، فكذلك إذا نسيه حامله في موضع قيل : نسي القوم زادهم ، فأضيف ذلك إلى الجميع بنسيان حامله ذلك ، فيجرى الكلام على الجميع ، والفعل من واحد ، فكذلك ذلك في قوله : نَسِيا حُوَتُهما لأن الله عزّ ذكره خاطب العرب بلغتها ، وما يتعارفونه بينهم من الكلام .
وأما قوله : يَخْرُجُ مِنْهُما اللّؤلُؤُ والمَرْجانُ فإن القول في ذلك عندنا بخلاف ما قال فيه ، وسنبينه إن شاء الله تعالى إذا انتهينا إليه .
وأما قوله : فاتّخَذَ سَبِيلَهُ فِي البَحْرِ سَرَبا فإنه يعني أن الحوت اتخذ طريقه الذي سلكه في البحر سربا ، كما :
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد فاتّخَذَ سَبِيلَهُ فِي البَحْرِ سَرَبا قال : الحوت اتخذ . ويعني بالسرب : المسلك والمذهب ، يسرب فيه : يذهب فيه ويسلكه .
ثم اختلف أهل العلم في صفة اتخاذه سبيله في البحر سربا ، فقال بعضهم : صار طريقه الذي يسلك فيه كالحجر . ذكر من قال ذلك :
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : قال ابن عباس ، قوله سَرَبا قال : أثره كأنه حجر .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، قال : ثني محمد بن إسحاق ، عن الزهري ، عن عبيد الله بن عبد الله عن ابن عباس ، عن أبيّ بن كعب ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم حين ذكر حديث ذلك : «ما انْجابَ ماءٌ مُنْذُ كانَ النّاسُ غيرُهُ ثَبَتَ مَكانُ الحُوتِ الّذِي فِيهِ فانْجابَ كالكُوّةِ حتى رَجَعَ إلَيْهِ مُوسَى ، فَرأى مَسْلَكَهُ ، فقالَ : ذلكَ ما كُنّا نَبْغي » .
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا ابن عطية ، قال : حدثنا عمرو بن ثابت ، عن أبيه ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، في قوله فاتّخَذَ سَبيلَهُ فِي البَحْرِ سَرَبا قال : جاء فرأى أثر جناحيه في الطين حين وقع في الماء ، قال ابن عباس فاتّخَذَ سَبِيلَهُ فِي البَحْرِ سَرَبا وحلق بيده .
وقال آخرون : بل صار طريقه في البحر ماء جامدا . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قال : سرب من الجرّ حتى أفضى إلى البحر ، ثم سلك ، فجعل لا يسلك فيه طريقا إلا صار ماء جامدا .
وقال آخرون : بل صار طريقه في البحر حجرا . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قال : جعل الحوت لا يمسّ شيئا من البحر إلا يبس حتى يكون صخرة .
وقال آخرون : بل إنما اتخذ سبيله سربا في البرّ إلى الماء ، حتى وصل إليه لا في البحر . ذكر من قال ذلك :
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : فاتّخَذَ سَبِيلَهُ فِي البَحْرِ سَرَبا قال : قال : حشر الحوت في البطحاء بعد موته حين أحياه الله . قال ابن زيد ، وأخبرني أبو شجاع أنه رآه قال : أتيت به فإذا هو شقة حوت وعين واحدة ، وشقّ آخر ليس فيه شيء .
والصواب من القول في ذلك أن يقال كما قال الله عزّ وجلّ : واتخذ الحوت طريقه في البحر سربا . وجائز أن يكون ذلك السرب كان بانجياب عن الأرض وجائز أن يكون كان بجمود الماء وجائز أن يكون كان بتحوّله حجرا .
وأصحّ الأقوال فيه ما رُوي الخبر به عن رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي ذكرنا عن أبيّ عنه .
{ فلما بلغا مجمع بينهما } أي مجمع البحرين و{ بينهما } ظرف أضيف إليه على الاتساع أو بمعنى الوصل . { نسيا حوتهما } نسي موسى عليه الصلاة والسلام أن يطلبه ويتعرف حاله ، ويوشع أن يذكر له ما رأى من حياته ووقوعه في البحر . روي : أن موسى عليه السلام رقد فاضطرب الحوت المشوي ووثب في البحر معجزة لموسى أو الخضر . وقيل توضأ يوشع من عين الحياة فانتضح الماء عليه فعاش ووثب في الماء . وقيل نسيا تفقد آمره وما يكون منه أمارة على الظفر بالمطلوب { فاتخذ سبيله في البحر سربا } فاتخذ الحوت طريقه في البحر مسلكا من قوله { وسارب بالنهار } . وقيل أمسك الله جرية الماء على الحوت فصار كالطاق عليه ، ونصبه على المفعول الثاني وفي البحر حال منه أو من السبيل ويجوز تعلقه باتخذ .
الضمير في قوله { بينهما } للبحرين ، قاله مجاهد ، وقيل هو لموسى والخضر ، والأول أصوب ، وقرأ عبيد الله بن مسلم «مجمِع » بكسر الميم الثانية ، وقال { نسيا } وإنما كان النسيان من الفتى وحده ، نسي أن يعلم موسى بما رأى من حاله من حيث كان لهما زاداً ، وكانا بسبب منه فنسب فعل الواحد فيه إليهما ، وهذا كما تقول فعل بنو فلان لأمر إنما فعله منهم بعض ، وروي في الحديث أن يوشع رأى الحوت قد حش من المكتل{[7846]} إلى البحر فرآه قد اتخذ السرب ، وكان موسى نائماً فأشفق أن يوقظه ، وقال أوخر حتى يستيقظ ، فلما استيقظ نسي يوشع أن يعلمه ، ورحلا حتى جاوزا «والسبيل » : المسلك و «السرب » : المسلك في جوف الأرض ، فشبه به مسلك الحوت في الماء حين لم ينطبق الماء بعده ، بل بقي كالطاق{[7847]} وهذا الذي ورد في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم{[7848]} ، وقاله جمهور المفسرين أن الحوت بقي موضع سلوكه فارغاً ، وقال قتادة ، صار موضع سلوكه حجراً صلداً . وقال ابن زيد إنما اتخذ { سبيله سرباً } في البر حتى وصل إلى البحر ثم عام على العادة .
قال القاضي أبو محمد : وهؤلاء يتأولون { سرباً } بمعنى تصرفاً وجولاناً من قولهم فحل سارب ، أي مهمل يرعى حيث شاء ، ومنه قوله تعالى : { وسارب بالنهار }{[7849]} [ الرعد : 10 ] ، أي متصرف وقالت فرقة اتخذ { سرباً } في التراب من المكتل إلى البحر ، وصادف في طريقه حجراً فثقبه ، وظاهر الأمر أن السرب ، إنما كان في الماء ، ومن غريب ما روي في البخاري عن ابن عباس من قصص هذه الآية أن الحوت إنما حيي لأنه مسه ماء عين هنالك تدعى عين الحياة ما مست قط شيئاً إلا حيي ، ومن غريبه أيضاً أن بعض المفسرين ذكر أن موضع سلوك الحوت عاد حجراً طريقاً ، وأن موسى مشى عليه متبعاً للحوت حتى أفضى ذلك الطريق إلى الجزيرة في البحر وفيها وجد الخضر ، وظاهر الروايات والكتاب أنه إنما وجد الخضر في ضفة البحر ، يدل على ذلك قوله تعالى : { فارتدا على آثارهما قصصاً } .