{ ثم كلي من كل الثمرات } ، يعني : من بعض الثمرات ؛ لأنه لا تأكل من جميع الثمار ، فلفظة كل هاهنا ليست للعموم ، { فاسلكي سبل ربك } ، يعني : الطرق التي ألهمك الله أن تسلكيها ، وتدخلي فيها ؛ لأجل طلب الثمرات ، { ذللاً } ، قيل : إنها نعت للسبل ، يعني : أنها مذللة لكل الطرق مسهلة لك مسالكها . قال مجاهد : لا يتوعر عليها مكان تسلكه . وقيل : الذلل ، نعت للنحل ، يعني : أنها مذللة مسخرة لأربابها مطيعة منقادة لهم ، حتى أنهم ينقلونها من مكانها إلى مكان آخر حيث شاؤوا ! وأرادوا لا تستعصي عليهم { يخرج من بطونها شراب } ، يعني : العسل ، { مختلف ألوانه } ، يعني : ما بين أبيض وأحمر وأصفر ، وغير ذلك من ألوان العسل . وذلك على قدر ما تأكل من الثمار والأزهار ، ويستحيل في بطونها عسلاً بقدرة الله تعالى ، ثم يخرج من أفواهها يسيل كاللعاب ، وزعم الإمام فخر الدين الرازي أنه رأى في بعض كتب الطب ، أن العسل طل من السماء ينزل كالترتجبين ، فيقع على الأزهار وأوراق الشجر ، فتجمعه النحل فتأكل بعضه ، وتدخر بعضه في بيوتها لأنفسها ؛ لتتغذى به فإذا اجتمع في بيوتها من تلك الأجزاء الطلية شيء كثير ، فذلك هو العسل ، وقال هذا القول أقرب إلى العقل ؛ لأن طبيعة الترنجبين تقرب من طبيعة العسل ، وأيضاً : فإنا نشاهد أن النحل تتغذى بالعسل ، وأجاب عن قوله تعالى : يخرج من بطونها ، بأن كل تجويف في داخل البدن يسمى بطناً ، فقوله : يخرج من بطونها ، يعني : من أفواهها ، وقول أهل الظاهر أولى وأصح ؛ لأنا نشاهد أنه يوجد في طعم العسل طعم تلك الأزهار التي تأكلها النحل ، وكذلك يوجد لونها وطعمها فيه أيضاً ، ويعضد هذا قول بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم له : أكلت مغافير ؟ قال : لا . قالت : فما هذه الريح التي أجد منك ؟ قال : سقتني حفصة شربة عسل . قالت : جرست نحلة العرفط . العرفط شجر الطلح ، وله صمغ يقال لهم : المغافير كريه الرائحة ، فمعنى جرست نحلة العرفط : أكلت ورعت من العرفط الذي له الرائحة الكريهة ، فثبت بهذا الدليل صحة قول أهل الظاهر من المفسرين ، وأنه يوجد طعم العسل ، ولونه وريحه طعم ما يأكله النحل ولونه وريحه لا ما قاله الأطباء من أنه طل ؛ لأنه لو كان طلاًّ لكان على لون واحد وطبيعة واحدة . وقله : إنه طبيعة العسل تقرب من طبيعة الترنجبين فيه نظر ؛ لأن مزاج الترنجبين معتدل إلى الحرارة ، وهو ألطف من السكر ، ومزاج العسل حار يابس في الدرجة الثانية ، فبينهما فرق كبير . وقوله : كل تجويف في داخل البدن يسمى بطناً فيه نظر ؛ لأن لفظ البطن إذا أطلق لم يرد إلا العضو المعروف ، مثل : بطن الإنسان ، وغيره والله أعلم . وقوله تعالى :{ فيه } ، يعني : في الشراب الذي يخرج من بطون النحل ، { شفاء للناس } ، وهذا قول ابن عباس ، وابن مسعود ، إذ الضمير في قوله : { فيه شفاء للناس } ، يرجع إلى العسل ، وقد اختلفوا في هذا الشفاء ، هل هو على العموم لكل مرض ، أو على الخصوص لمرض دون مرض ؟ على قولين : أحدهما : أن العسل فيه شفاء من كل داء وكل مرض ، قال ابن مسعود : «العسل شفاء من كل داء ، والقرآن شفاء لما في الصدور . » وفي رواية أخرى عنه : «عليك بالشفائين القرآن والعسل » ، وروى نافع أن ابن عمر ما كانت تخرج به قرحة ، ولا شيء إلا لطخ الموضع بالعسل ، ويقرأ : { يخرج من بطونها شراب مختلف ألوانه فيه شفاء للناس } ( ق ) ، عن أبي سعيد الخدري قال : « جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : إن أخي استطلق بطنه ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : اسقه عسلاً ، فسقاه ، ثم جاء فقال : إني سقيته عسلاً ، فلم يزده إلا استطلاقاً ، فقال له : ثلاث مرات ثم جاء الرابعة : فقال : اسقه عسلاً ، فقال : لقد سقيته فلم يزده إلا استطلاقاً ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : صدق الله ، وكذب بطن أخيك ، فسقاه فبرأ . » وقد اعترض بعض الملحدين ، ومن في قلبه مرض على هذا الحديث . فقال : إن الأطباء مجمعون على أن مسهل ، فكيف يوصف لمن به الإسهال ؟ فنقول في الرد على هذا المعترض الملحد الجاهل بعلم الطب ، أن الإسهال يحصل من أنواع كثيرة : منها التخم ، والهيضات ، وقد أجمع الأطباء في مثل هذا على أن علاجه بأن تترك الطبيعة وفعلها ، فإن احتاجت إلى معين على الإسهال ، أعينت ما دامت القوة باقية ، فأما حبسها فمضر عندهم ، واستعجال مرض ، فيحتمل أن يكون إسهال الشخص المذكور في الحديث أصابه من امتلاء أو هيضة ، فدواؤه بترك إسهاله على ما هو عليه ، أو تقويته ، فأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم العسل ، فزاده إسهالاً ، فزاده عسلاً إلى أن فنيت المادة ، فوقف الإسهال ، و يكون الخلط الذي كان به يوافقه شرب العسل ، فثبت بما ذكرناه أن أمره صلى الله عليه وسلم لهذا الرجل بشرب العسل ، جار على صناعة الطب ، وأن المعترض عليه جاهل لها ، ولسنا نقصد الاستظهار لتصديق الحديث بقول الأطباء : بل لو كذبوه لكذبناهم ، وكفرناهم بذلك ، وإنما ذكرنا هذا الجواب الجاري على صناعة الطب ، دفعاً لهذا المعترض بأنه لا يحسن صناعة الطب التي اعترض بها ، والله أعلم ، وقوله صلى الله عليه وسلم : « صدق الله ، وكذب بطن أخيك » . يحتمل أنه صلى الله عليه وسلم ، علم بالوحي الإلهي ، أن العسل الذي أمره بشربه ، سيظهر نفعه بعد ذلك ، فلما لم يظهر نفعه في الحال عندهم قال : صدق الله ، يعني : فيما وعد به من أن فيه شفاء ، وكذب بطن أخيك ، يعني : باستعجالك للشفاء في أول مرة ، والله أعلم بمراده ، وأسرار رسوله صلى الله عليه وسلم فإن قالوا : كيف يكون شفاء للناس ، وهو يضر بأصحاب الصفراء ، ويهيج الحرارة ، ويضر بالشباب المحرورين ويعطش ، قلنا : في الجواب عن هذا الاعتراض أيضاً : إن قوله فيه شفاء للناس مع أنه يضر بأصحاب الصفراء ، ويهيج الحرارة ، أنه خرج مخرج الأغلب ، وأنه في الأغلب فيه شفاء ، ولم يقل : إنه شفاء لكل الناس لكل داء ، ولكنه في الجملة دواء ، وإن نفعه أكثر من مضرته ، وقل معجون من المعاجين إلا وتمامه به . والأشربة المتخذة من العسل نافعة لأصحاب البلغم ، والشيوخ المبرودين ، ومنافعه كثيرة جداً ، والقول الثاني : أنه شفاء للأوجاع التي شفاؤها فيه ، وهذا قول السدي ، وقال مجاهد : في قوله : { فيه شفاء للناس } ، يعني : القرآن ؛ لأنه شفاء من أمراض الشرك والجهالة والضلالة ، وهو هدى ورحمة للناس ، والقول الأول أصح ؛ لأن الضمير يجب أن يعود إلى أقرب المذكورات ، وأقربها قوله تعالى : { يخرج من بطونها شراب } وهو : العسل ، فهو أولى أن يرجع الضمير إليه ؛ لأنه أقرب مذكور . وقوله سبحانه وتعالى : { إن في ذلك لآية لقوم يتفكرون } ، يعني : فيعتبرون ويستدلون بما ذكرنا على وحدانيتنا وقدرتنا .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.