{ ألم تر إلى الذين نافقوا . . . . } حكاية لما جرى بين المنافقين – وعلى رأسهم عبد الله بن أبي – وبين بني النضير أثناء حصارهم . { ولا نطيع فيكم } أي في قتالكم{ أحدا أبدا } من الرسول أو المسلمين . { والله يشهد إنهم لكاذبون } في وعودهم المؤكدة بالأيمان لبني النضير . وصفهم الله في هذه الآية بالكذب وفي الآية التالية بالجبن ، وهكذا حال المنافقين دائما .
الذين نافقوا : أظهروا الإسلام وأضمروا الكفر .
ثم يأتي الحديث عن المنافقين ، وكَذِبهم وخداعهم ، وعدم وفائهم بما قالوا لإخوانهم اليهود الذين اتفقوا على بُغض الرسول الكريم والمؤمنين ، فيقول تعالى تعجّباً من كفرهم وكذبهم ونفاقهم : { أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين نَافَقُواْ يَقُولُونَ لإِخْوَانِهِمُ الذين كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الكتاب لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلاَ نُطِيعُ فيكُمْ أَحَداً أَبَداً } .
ألم تَعْجَبْ من حال هؤلاء المنافقين الذين خدعوا إخوانهم في الكفر ، اليهودَ من بني النضير ، حيث قالوا لهم اصمُدوا في دِياركم ولا تخرُجوا ، فإننا سننصركم ، وإن أُخرجْتم من المدينة لنخرجنَّ معكم ، ولا نطيعُ في شأنِكم أحدا أبدا .
{ وَإِن قُوتِلْتُمْ لَنَنصُرَنَّكُمْ والله يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ } ، إن قاتلكم المسلمون قاتلنا نحن معكم . والله يشهد إن المنافقين لكاذبون فيما وعدوا به .
ثم تعجب تعالى من حال المنافقين ، الذين طمعوا إخوانهم من أهل الكتاب ، في نصرتهم ، وموالاتهم على المؤمنين ، وأنهم يقولون لهم : { لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلَا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَدًا أَبَدًا } أي : لا نطيع في عدم نصرتكم أحدا يعذلنا أو يخوفنا ، { وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ } في هذا الوعد الذي غروا به إخوانهم .
{ ألم تر إلى الذين نافقوا } الآية وذلك أن المنافقين ذهبوا الى بني النضير لما حاصرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا لا تخرجوا من دياركم فإن قاتلكم محمد كنا معكم وإن أخرجكم خرجنا معكم وذلك قوله :{ لئن أخرجتم لنخرجن معكم ولا نطيع فيكم أحدا } سألنا خذلانكم { أبدا } فكذبهم الله تعالى فيما قالوا بقوله :{ والله يشهد إنهم لكاذبون } والآية الثانية وذكر أنهم ان نصروهم انهزموا ولم ينتصروا وهو قوله { ولئن نصروهم ليولن الأدبار ثم لا ينصرون } .
قوله تعالى :{ ألم تر إلى الذين نافقوا } تعجب{[14860]} من اغترار اليهود بما وعدهم المنافقون من النصر مع علمهم بأنهم لا يعتقدون دينا ولا كتابا . ومن جملة المنافقين عبدالله بن أبي بن سلول ، وعبدالله بن نبتل ، ورفاعة بن زيد . وقيل : رافعة بن تابوت ، وأوس بن قيظي ، كانوا من الأنصار ولكنهم نافقوا ، وقالوا ليهود قريظة والنضير . { لئن أخرجتم لنخرجن معكم } وقيل : هو من قول بني النضير لقريظة . { ولا نطيع فيكم أحدا أبدا } يعنون محمدا صلى الله عليه وسلم ، لا نطيعه في قتالكم . وفي هذا دليل على صحة نبوة محمد صلى الله عليه وسلم من جهة علم الغيب ؛ لأنهم أخرجوا فلم يخرجوا ، وقوتلوا فلم ينصروهم ، كما قال الله تعالى :{ والله يشهد إنهم لكاذبون } أي في قولهم وفعلهم .
ولما دل على أن{[63983]} هذا الثناء{[63984]} للصادقين في الإيمان بإقامة{[63985]} السنة بالهجرة والإيثار والاجتهاد في الدعاء لمن{[63986]} تبين الإيمان فسهل به طريق الأمان ، فأخرج ذلك المنافقين وأفهم أنهم لا يفعلون ذلك لأنهم لا رسوخ لهم في الإيمان الحامل على ذلك ، دل على نفاقهم الموجب لكذبهم بقوله متمماً للقصة مخاطباً لأعلى الخلق إشارة إلى أنه لا يطلع على نفاقهم لما لهم فيه من دقة المكر حق الاطلاع غيره صلى الله عليه وسلم معجباً من حالهم{[63987]} في عدم رسوخهم مع ما يرون من المعجزات والآيات البينات ويرون من حال المؤمنين من إسباغ الرحمة عليهم بتسهيل الأمور والنصرة على الجبابرة والإعراض{[63988]} عن الدنيا مع الإقبال على الآخرة والاجتهاد في الدين الذي{[63989]} هو وحده داع إلى الإيمان ومرقق للقلوب ومبين للحقائق{[63990]} غاية البيان : { ألم تر } أي تعلم علماً هو في قوة{[63991]} الجزم به{[63992]} كالمشاهد{[63993]} يا أعلى الخلق ، وبين بعدهم عن جنابه العالي ومنصبه الشريف الغالي بأداة الانتهاء{[63994]} فقال تعالى : { إلى الذين نافقوا } أي أظهروا غير ما أضمروا ، أظهروا{[63995]} الخير وبالغوا في إخفاء عقائدهم بالشر مبالغة من ساجل{[63996]} غيره ، وهم عبد الله بن أبي وأصحابه ، قالوا : والنفاق لفظ إسلامي لم تكن العرب تعرفه قبله ، وهو استعارة من {[63997]}فعل الضب{[63998]} في نافقائه وقاصعائه ، وصور حالهم بقوله : { يقولون لإخوانهم } أي في الموالاة بالضلالة{[63999]} .
ولما جمعهم في الكفر وإن افترقوا في المساترة والمجاهرة ، وصف المجاهرين بنوع مساترة توجب النفرة منهم وتقضي بهلاك من صادقهم فقال : { الذين كفروا } أي غطوا أنوار المعارف التي دلتهم{[64000]} على الحق ، وعينهم بما أبلغ في ذمهم {[64001]}من حيث{[64002]} إنهم ضلوا على علم فقال : { من أهل الكتاب } وهم بنو{[64003]} النضير هؤلاء ، وبكتهم بكذبهم فيما أكدوا الموعد به لأنه في حيز ما ينكر من جهة أنهم لا يقدرون على المجاهرة بكفرهم فكيف بالمبارزة بالخلاف لقومهم الأنصار والنبي صلى الله عليه وسلم فيهم في قولهم : { لئن أخرجتم } أي{[64004]} من مخرج ما من بلدهم الذي في المدينة الشريفة فخرجتم من غير أن تقاتلوا { لنخرجن معكم } فكان ما قضي به على إخوانهم من الإخراج فألاً وكل بمنطقهم .
ولما كان من المعلوم{[64005]} أن للمنافقين أقارب من أكابر المؤمنين ، وكان من المعلوم - أنهم يقومون عليهم في منعهم من القيام معهم نصيحة{[64006]} لهم وإحساناً إليهم ، وكان تجويز بني النضير موهناً لذلك{[64007]} ، قالوا مؤكدين للكون معهم : { ولا نطيع فيكم } أي في خذلانكم ، والمعنى أنه لو فرض أنه صار أحد في القرب منكم مثل قرب المظروف من الظرف ما أطعناه في التقصير فيما يسركم { أحداً } أي يسألنا خذلانكم من الرسول والمؤمنين ، وأكدوا بقولهم : { أبداً } أي ما دمنا نعيش ، وبمثل{[64008]} هذا العزم استحق الكافر الخلود الأبدي في العذاب .
ولما قدموا في معونتهم ما كان فألاً قاضياً عليهم ، أتبعوه قولهم : { وإن قوتلتم } أي من أي مقاتل{[64009]} كان فقاتلتم ولم تخرجوا { لننصرنكم } فالآية من الاحتباك : ذكر الإخراج أولاً دليلاً على ضده ثانياً ، والقتال ثانياً دليلاً على حذف ضده أولاً ، ومعنى الآية أن النبي صلى الله عليه وسلم أرسل إلى بني النضير : " اخرجوا من بلدي ولا تساكنوني ، قد هممتم بالغدر بن وقد أجلتكم عشراً ، فمن رئي بعد ذلك منكم ضربت عنقه " فأرسل{[64010]} إليهم ابن أبي بما تقدم .
ولما كان قولهم هذا كلاماً يقضي عليه سامعه بالصدق من حيث كونه مؤكداً مع كونه مبتدأ من غير سؤال فيه ، بين حاله{[64011]} سبحانه بقوله : { والله } أي يقولون ذلك {[64012]}والحال{[64013]} أن المحيط بكل شيء قدرة وعلماً { يشهد } بما يعلم من بواطنهم في عالم الغيب . ولما كان بعض من يسمع قولهم هذا ينكر أن لا يطابقه الواقع ، وكان إخلافهم{[64014]} فيه متحققاً في علم الله ، أطلق عليه ما لا يطلق إلا على ما كشف الواقع عن أنه غير مطابق ، فقال تشجيعاً للمؤمنين على قتالهم مؤكداً { إنهم } أي المنافقون { لكاذبون * } وهذا من أعظم دلائل النبوة لأنه إخبار بمغيب بعيد عن العادة بشهادة ما ظننتم أن يخرجوا فحققه الله عن قريب{[64015]} .
{ ألم تر إلى الذين نافقوا يقولون لإخوانهم الذين كفروا من أهل الكتاب لئن أخرجتم لنخرجن معكم ولا نطيع فيكم أحدا أبدا وإن قوتلتم لننصرنكم والله يشهد إنهم لكاذبون } .
{ ألم ترْ } تنظر { إلى الذين نافقوا يقولون لإخوانهم الذين كفروا من أهل الكتاب } وهم بنو النضير وإخوانهم في الكفر { لئن } لام قسم في الأربعة { أخرجتم } من المدينة { لنخرجن معكم ولا نطيع فيكم } في خذلانكم { أحداً أبداً وإن قوتلتم } حذفت منه اللام الموطئة { لننصرنكم والله يشهد إنهم لكاذبون } .