الهداية إلى بلوغ النهاية لمكي بن ابي طالب - مكي ابن أبي طالب  
{۞فَنَبَذۡنَٰهُ بِٱلۡعَرَآءِ وَهُوَ سَقِيمٞ} (145)

ثم قال : { فنبذناه بالعراء } أي : ألقاه الحوت في المكان الحالي هذا قول أهل اللغة {[57792]} .

وقال ابن عباس : " بالعراء " : بالساحل {[57793]} .

وقال قتادة : بأرض ليس فيها شيء ولا نبات {[57794]} .

وقال السدي : " بالعراء " : بالأرض {[57795]} .

وقوله : { وهو سقيم } .

قال السدي : كهيئة الصبي {[57796]} .

قال ابن عباس : لفظه الحوت بساحل البحر ، فطرحه مثل الصبي المنفوس {[57797]} لم ينقص من خلقه شيء {[57798]} .

قال ابن عباس : كانت رسالة يونس بعد أن ألقاه الحوت {[57799]} .

وقال ابن مسعود : أرسل قبل وبعد إلى قومه بأعيانهم الذين صرف عنهم العذاب وهو قول مجاهد والحسن {[57800]} .

وروي عن ابن مسعود وغيره : أن يونس وعد قومه العذاب وأخبرهم {[57801]} أنه يأتيهم إلى ثلاثة أيام ففرقوا بين كل والدة وولدها ، وخرجوا فجاروا {[57802]} إلى الله {[57803]} واستغفروه فكف عنهم العذاب {[57804]} ولم يكف عنهم العذاب بعد معاينته إنما رأوا مخايله {[57805]} وعلامات له ذكرهما لهم يونس صلى الله عليه وسلم ، فآمنوا وتابوا وتضرعوا إلى الله {[57806]} قيل معاينة العذاب ، ولو عاينوه لم ينفعهم االإيمان لأن من عاين العذاب نازلا به سقط عنه حد التكليف ، ولم يقبل منه الإيمان كفرعون لما آمن عند معاينة الغرق .

وكقوله تعالى : { يوم يأت بعض آيات ربك لا ينفع نفسا إيمانها } {[57807]} .

فمن عاين العذاب لم يقبل منه توبة ولا إيمان كذلك من عاين الموت وغرغر لم تقبل منه توبة . إنما قبلت توبة قوم يونس ، وإيمانهم قبل معاينتهم لنزول العذاب لما فقدوا يونس ، وقد أوعدهم العذاب وعلموا صدقه ورأوا مخايل العذاب وأماراته ، أيقنوا بنزول العذاب فقبل الله {[57808]} توبتهم ، ولو فعلوا ذلك فور {[57809]} معاينة العذاب لم ينفعهم ذلك كما لم ينفع ذلك فرعون/ وأشباهه لأن معاينة العذاب تسقط التكليف ، وإذا سقط التكليف لم يقبل ما يتكلفه العبد من العمل فاعرف هذا الأصل .

ويروى أن قوم يونس لما عاينوا العذاب قام رجل منهم فقال : اللهم إن ذنوبنا عظمت وجلت وأنت أعظم منها وأجل فافعل فينا ما أنت أهله [ ولا تفعل فينا ما نحن أهله ] {[57810]} فكشف الله عنهم العذاب فخرج يونس ينتظر العذاب فلم ير شيئا ، وكان حكمهم أنه من كذب ولم تكن له بينة قتل ، فخرج يونس {[57811]} مغاضبا على قومه ، فأتى قوما في سفينة فحملوه فلما دخل السفينة ركدت ، والسفن تسير يمينا وشمالا ، فقالوا : ما لسفينتكم ؟ قالوا : لا ندري فقال يونس إن فيها عبدا آبقا من ربه {[57812]} وإنها لن تسير حتى تلقوه . قالوا : أما أنت يا نبي الله فإنا لا نلقيك ، قال : فاقترعوا فمن قرع فليقع فاقترعوا فقرع يونس {[57813]} ثلاث مرات فوقع ، فوكل الله جل ذكره حوتا فابتلعه فهو يهوي به إلى قرار الأرض ، فسمع يونس {[57814]} تسبيح الحصى ، { فنادى في الظلمات أن لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين } {[57815]} يعني ظلمة الله وظلمة البحر وظلمة بطن الحوت {[57816]} .

قال : { فنبذناه بالعراء وهو سقيم } قال : كهيئة الفرخ الممعوط {[57817]} الذي ليس عليه ريش {[57818]} .

فروي أنه طرح على شاطئ البحر وهو ضعيف كالطفل المولود ، فلما طلعت عليه الشمس نادى من حرها ، فأنبت الله {[57819]} عليه شجرة من يقطين وهو القرع وهو جمع يقطينة ، وقيل : هو كل شجرة لا تقوم على ساق كالقرع والبطيخ ونحوهما {[57820]} .

وقال المبرد {[57821]} : كل شجرة لا تقوم على ساق فهي يقطينة ، فإن قامت على ساق فهي شجرة {[57822]} .

واشتقاق يقطين : من قطن بالمكان إذا أقام به {[57823]} .

وعلى أنها القرع : ابن عباس وقتادة والضحاك وابن جبير وابن زيد {[57824]} .

وقيل : هي شجرة أظلته سماها الله {[57825]} يقطينا وليست بالقرع {[57826]} .

وقيل : هو {[57827]} البطيخ ، روي ذلك عن ابن عباس أيضا {[57828]} .

قال ابن جبير : أرسل الله {[57829]} على الشجرة دابة فقرضت عروقها فتساقطت ورقها ( فلحقته الشمس فشكاها فقيل له جزعت من حر الشمس ) {[57830]} .

ولم يجزع لمائة ألف أو يزيدون تابوا فتاب الله {[57831]} عليهم {[57832]} روي أنهم لما رأوا علامات إتيان العذاب خرجوا وتابوا وأفردوا الأطفال والبهائم ، وضجوا {[57833]} إلى الله {[57834]} مستغيثين تائبين فصرف عنهم العذاب وتاب {[57835]} عليهم {[57836]} .

قال ابن مسعود في حديثه : فكان {[57837]} يستظل بها ويصيب منها فيبست فبكى عليها فأوحى الله {[57838]} إليه {[57839]} أتبكي على شجرة يبست ولا تبكي على مائة ألف أو يزيدون أردت أن تهلكهم قال : وخرج يونس فإذا هو بغلام يرعى فقال يا غلام : من أنت ؟ فقال {[57840]} : من قوم يونس عليه السلام قال : فإذا جئتهم {[57841]} فأخبرهم أنك قد لقيت يونس ، فقال له الغلام : إن كنت يونس فقد علمت أنه من كذب قتل إذا لم تكن له بينة ، فمن يشهد لي ؟ قال : هذه الشجرة وهذه البقعة ، قال : فمرهما قال لهما يونس : إذا جاءكما هذا الغلام فاشهدوا له ، قالتا : نعم فرجع الغلام إلى قومه وكان في منعة ، وكان له إخوة فأتى الملك فقال {[57842]} : إني قد {[57843]} لقيت يونس {[57844]} وهو يقرأ عليك السلام .

قال : فأمر به أن يقتل فقالوا : إن له بينة فأرسلوا معه فأتى {[57845]} الشجرة والبقعة فقال لهما : نشدتكما {[57846]} الله أشهدكما يونس ؟ قالتا : نعم قال : فرجع القوم مذعورين يقولون : شهدت له الشجرة والأرض ، فأتوا الملك فأخبروه بما/ رأوا قال عبد الله : فتناول الملك يد الغلام وأجلسه {[57847]} مجلسه وقال : أنت أحق بهذا المكان مني . قال {[57848]} عبد الله فأقام ذلك الغلام أمرهم أربعين سنة {[57849]} .


[57792]:في اللسان مادة "عرا" 15/49: نسبة هذا القول إلى أهل اللغة كأبي عبيدة والزجاج وغيرهما.
[57793]:انظر: جامع البيان 23/101 والدر المنثور 7/127
[57794]:انظر: جامع البيان 23/101
[57795]:المصدر السابق
[57796]:انظر: جامع البيان 23/102 وتفسير ابن كثير 4/22
[57797]:الصبي المنفوس هو: الصبي المولود انظر: اللسان مادة "نفس" 6/239
[57798]:انظر: جامع البيان 23/102 والمحرر الوجيز 13/256 والجامع للقرطبي 15/128
[57799]:انظر: الجامع للقرطبي 15/ 128 وتفسير ابن كثير 4/23
[57800]:انظر: جامع البيان 23/104
[57801]:ب: "فأخبرهم"
[57802]:ب: "فجاروي" وهو تحريف وقد جاء في اللسان مادة "جأ" 4/112 "جأر يجأر جأرا وجؤارا رفع صوته مع تضرع واستغاثة... وجأر القوم جؤارا وهو أن يرفعوا أصواتهم بالدعاء متضرعين"
[57803]:ب: "الله عز وجل"
[57804]:انظر: تفسير ابن مسعود 2/532 والجامع للقرطبي 15/130
[57805]:مخايل: جمع مخيلة وهي السحابة انظر: اللسان مادة "خيل" 11/227
[57806]:ساقط من أ
[57807]:الأنعام: 159
[57808]:ب: "الله عز وجل"
[57809]:ب: "حين"
[57810]:ما بين المعقوقين ساقط من أ
[57811]:ب: "يونس صلى الله عليه وسلم"
[57812]:ب: "ربه سبحانه"
[57813]:ب: "يونس صلى الله عليه وسلم"
[57814]:المصدر السابق
[57815]:الأنبياء آية 86
[57816]:هو قول ابن مسعود في الجامع للقرطبي 15/ 130ـ 131
[57817]:الفرخ الممعوط هو الطائر المنتوف جاء في اللسان مادة "امعط" 7/405 معطه يمعطه معطا نتفه وتمعطت أوبار الإبل: تطايرت وتفرقت"
[57818]:هو قول ابن مسعود أيضا انظر: تفسير ابن مسعود 2/533
[57819]:ب: "الله عز وجل"
[57820]:هو قول سعيد بن جبير وابن عباس والحسن ومقاتل انظر: المحرر الوجيز 13/257، 258
[57821]:في ب: "قال المبرد: كل شجرة لا تقوم على ساق كالقرع والبطيخ وغيرها" وهذا الكلام زيادة من الناسخ وخطأ منه حيث أضاف القول الوارد قبل المبرد إلى قولل هذا الأخير.
[57822]:انظر: الجامع للقرطبي 15/129
[57823]:ب: "إذا أقام فيه به"
[57824]:انظر: جامع البيان 23/102 والمحرر الوجيز 13/256 وقصص الأنبياء لابن كثير 260، وتفسير ابن كثير 4/ 22، والدر المنثور 7/130
[57825]:ب: "الله عز وجل"
[57826]:هو قول سعيد بن جبير كما في جامع البيان 23/103
[57827]:ب: "هي"
[57828]:انظر: جامع البيان 23/102
[57829]:ب: "الله عز وجل"
[57830]:(فلحقته... حر الشمس) تكرر مرتين في ب
[57831]:ب: الله عز وجل
[57832]:انظر: جامع البيان 23/103ـ 104
[57833]:ضجوا: أي رفعوا صوتهم بالدعاء والاستغاثة انظر: اللسان مادة "ضجج" 2/312
[57834]:ب: "الله عز وجل"
[57835]:ب: "تيب"
[57836]:انظر: أحكام ابن العربي 4/1621 ـ 1622
[57837]:ب: "فكانوا"
[57838]:ب: "الله عز وجل"
[57839]:ساقط من ب
[57840]:ب: "قال"
[57841]:ب: "أجئتهم"
[57842]:ب: "فقال له"
[57843]:ساقط من ب
[57844]:ب: "يونس صلى الله عليه وسلم"
[57845]:ب: "وأتى"
[57846]:ب: "أنشدتكما"
[57847]:ب: "فأجلسه"
[57848]:ب: "وقال"
[57849]:انظر: إعراب النحاس 3/442 والجامع للقرطبي 15/131 وتفسير ابن مسعود 2/533