تأويلات أهل السنة للماتريدي - الماتريدي  
{وَلَقَدۡ خَلَقۡنَا ٱلۡإِنسَٰنَ وَنَعۡلَمُ مَا تُوَسۡوِسُ بِهِۦ نَفۡسُهُۥۖ وَنَحۡنُ أَقۡرَبُ إِلَيۡهِ مِنۡ حَبۡلِ ٱلۡوَرِيدِ} (16)

الآية 16 وقوله تعالى : { وقد خلقنا الإنسان ونعلم ما توسوس به نفسه } هو يخرّج على وجهين :

أحدهما : يقول على علم منا يحدّث به نفسه من أنواع الحديث والوسوسة لا عن جهل وخفاء عن ذلك . فإن هو كفّها ، وحبسها عما تدعو به إليه نفسه ، وتهواه ، وصرفها{[19747]} إلى ما يدعوه عقله وذهنه ، نجا ، وفاز ، كقوله تعالى : { إن النفس لأمّارة بالسوء إلا من رحم ربي } [ يوسف : 53 ] وقوله{[19748]} : { وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى } { فإن الجنة هي المأوى } [ النازعات : 40 و41 ] .

وإن تركها حتى تمادى في هواها هلك . قال الله تعالى : { فأما من طغى } { وآثر الحياة الدنيا } { فإن الجحيم هي المأوى } [ النازعات : 37 و38 و39 ] وقال في آية أخرى : { أرأيت من اتخذ إلهه هواه } [ الفرقان : 43 ] .

والثاني : يذكر : { ولقد خلقنا الإنسان ونعلم ما توسوس به نفسه } أي نحن مطّلعون على ذلك ، ليس علم ذلك إلى الحفظة ، وهم يتولّون كتابته ، أي لم يجعل ذلك إلى أحد ، إنما ذلك إلى الله تعالى ، هو العالم بذلك ، وهو المطّلِع عليه دون الملائكة ، وإنما إلى الملائكة ما يلفظه ، ويفعل بالجوارح لقوله : { ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عنيد } [ ق : 18 ] [ وقوله في سورة ]{[19749]} أخرى : { وإن عليكم حافظين } { كراما كاتبين } { يعلمون ما تفعلون } [ الانفطار : 10و11 و12 ] أخبر أن الحَفَظة إنما يعلمون ما تفعلون ظاهرا . أما ما تُسرّون في قلوبكم فالله هو المطّلع على ذلك ، العالم ، لتكونوا أبدا على اليقظة والحذر ، والله أعلم .

وقوله تعالى : { ونحن أقرب إليه من حبل الوريد } يُفهم من قرب الرب تعالى إلى العبد ما يُفهم من قرب العبد إلى الله .

وإنما يكون قُرب العبد إلى الله تعالى بالطاعة له والقيام بأمره والانقياد والخضوع له . هذا هو المفهوم من قرب العبد إلى الله تعالى لا قرب شيء آخر . فعلى ذلك يُفهم من قرب الله تعالى إلى العبد الإجابة والنصر والمعونة والتوفيق على الطاعات .

وعلى ذلك ما يُقال : فلان قريب إلى فلان ، لا يعنون قرب نفسه من نفسه في المكان ، ولكم يعنون نصره له ومعونته إياه وإجابته .

ويحتمل أن يُذكر القرب منه كناية عن العلم بأحواله ظاهرا وباطنا ، والله أعلم .

وأصله أن تُعتبر الأحوال في ما ذكر من القُرب :

فإن كان في السؤال فالمراد أنه قريب منه بالإجابة له ، أي يجيبه كقوله تعالى : { وإذا سألك عبادي عني فإني قريب } [ البقرة : 186 ] .

وإن كان في ما يُسرّون ، ويُضمرون ، فيفهم من القُرب في تلك الحالة العلم به كقوله تعالى : { ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم } [ المجادلة : 7 ] فعلى ذلك قوله : { ونحن أقرب إليه من حبل الوريد } وقوله : { ونحن أقرب إليه منكم ولكن لا تبصرون } [ الواقعة : 85 ] يُفهم منه النصر والمعونة أو العلم .

فيكون قوله : { ونحن أقرب إليه من حبل الوريد } أي أعلم وأولى به وأحق من غيره في النصر والمعونة وأولى به في الإجابة ، والله أعلم .

وعلى ذلك يخرّج ما رُوي عن النبي صلى الله عليه وسلم [ عن الله عز وجل ]{[19750]} [ من تقرّب إليّ شبرا تقربت منه شبرين ] [ بنحوه البخاري 7537 ] على ما ذكرنا من قرب الطاعة له وقرب الرّب إليه بالنصر والمعونة لا قرب المكان ، ولا قوة إلا بالله .

وقوله تعالى : { من حبل الوريد } قال بعضهم : عرق العُنق ، والوريد العُنُق . وقال بعضهم : هو عرق بين القلب والحلقوم . وقال بعضهم : هو عرق القلب ، معلّق به ، فإذا قُطع ذلك العرق يموت الإنسان والله أعلم .


[19747]:في الأصل وم: ويصرفها.
[19748]:في الأصل وم: وقال.
[19749]:في الأصل وم: وقال في آية.
[19750]:ساقطة من الأصل وم.