الجامع التاريخي لبيان القرآن الكريم - مركز مبدع  
{وَلَقَدۡ أَهۡلَكۡنَا ٱلۡقُرُونَ مِن قَبۡلِكُمۡ لَمَّا ظَلَمُواْ وَجَآءَتۡهُمۡ رُسُلُهُم بِٱلۡبَيِّنَٰتِ وَمَا كَانُواْ لِيُؤۡمِنُواْۚ كَذَٰلِكَ نَجۡزِي ٱلۡقَوۡمَ ٱلۡمُجۡرِمِينَ} (13)

تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :

{ولقد أهلكنا القرون} بالعذاب في الدنيا،

{من قبلكم} يا أهل مكة،

{لما ظلموا}، يعني حين أشركوا، يخوف كفار مكة بمثل عذاب الأمم الخالية لكي لا يكذبوا محمدا صلى الله عليه وسلم...

جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :

يقول تعالى ذكره: ولقد أهلكنا الأمم التي كذّبت رسل الله من قبلكم أيها المشركون بربهم "لما ظَلَمُوا "يقول: لما أشركوا وخالفوا أمر الله ونهيه. "وجاءَتْهُمْ رُسُلُهمْ" من عند الله، "بالبَيّناتِ" وهي الآيات والحجج التي تبين عن صدق من جاء بها. ومعنى الكلام: وجاءتهم رسلهم بالآيات البينات أنها حقّ. "وَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا" يقول: فلم تكن هذه الأمم التي أهلكناها ليؤمنوا برسلهم ويصدّقوهم إلى ما دعوهم إليه من توحيد الله وإخلاص العبادة له. "كذلكَ نَجْزِي القَوْمَ المُجْرِمِينَ" يقول تعالى ذكره: كما أهلكنا هذه القرون من قبلكم أيها المشركون بظلمهم أنفسهم وتكذيبهم رسلهم وردّهم نصيحتهم، كذلك أفعل بكم فأهلككم كما أهلكتهم بتكذيبكم رسولكم محمدا صلى الله عليه وسلم، وظلمكم أنفسكم بشرككم بربكم، إن أنتم لم تنيبوا وتتوبوا إلى الله من شرككم، فإن من ثواب الكافر بي على كفره عندي أن أهلكه بسخطي في الدنيا وأورده النار في الآخرة.

تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :

... يحتمل قوله تعالى: (ولقد أهلكنا القرون من قبلكم لما ظلموا وجاءتهم رسلهم بالبينات) أنه إنما أهلك أولئك بسؤالهم الذي سألوا سؤال تعنت رسلهم الآيات، فإذا جاؤوا بتلك الآيات كذبوها، فأهلكوا عند ذلك. فأنتم يا يأهل مكة إذا سألتم رسولكم الآية، ثم كذبتموها، لعذبكم كما عذب أولئك، إذ من حكمه الإهلاك على إثر السؤال، كأنه ينهى أهل مكة عن سؤال الآيات لأن على إثره الإهلاك إذا لم يقبلوها.

(وجاءتهم رسلهم بالبينات) تحتمل البينات التي تبين ما يؤتى وما يتقى، وقد ذكرناها في غير موضع...

.

التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :

القرون: جمع قرن، وسمي أهل كل عصر قرنا لمقارنة بعضهم لبعض...

الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :

... المعنى: أن السبب في إهلاكهم تكذيب الرسل، وعلم الله أنه لا فائدة في إمهالهم بعد أن ألزموا الحجّة ببعثه الرسل. {كذلك} مثل ذلك الجزاء يعني الإهلاك {نَجْزِي} كل مجرم، وهو وعيد لأهل مكة على إجرامهم بتكذيب رسول الله صلى الله عليه وسلم...

مفاتيح الغيب للرازي 606 هـ :

في الآية مسائل:

المسألة الأولى: في بيان كيفية النظم؛ اعلم أنه تعالى لما حكى عنهم أنهم كانوا يقولون: {اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم} ثم إنه أجاب عنه بأن ذكر أنه لا صلاح في إجابة دعائهم، ثم بين أنهم كاذبون في هذا الطلب لأنه لو نزلت بهم آفة أخذوا في التضرع إلى الله تعالى في إزالتها والكشف لها، بين في هذه الآية ما يجري مجرى التهديد، وهو أنه تعالى قد ينزل بهم عذاب الاستئصال ولا يزيله عنهم، والغرض منه أن يكون ذلك رادعا لهم عن قولهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء، لأنهم متى سمعوا أن الله تعالى قد يجيب دعاءهم وينزل عليهم عذاب الاستئصال، ثم سمعوا من اليهود والنصارى أن ذلك قد وقع مرارا كثيرة، صار ذلك رادعا لهم وزاجرا عن ذكر ذلك الكلام، فهذا وجه حسن مقبول في كيفية النظم...

نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :

لما كان محط نظرهم الدنيا، وكان هذا صريحاً في الإمهال للظالمين والإحسان إلى المجرمين، أتبعه بقوله تعالى مهدداً لهم رادعاً عما هم فيه من إتباع الزينة مؤكداً لأنهم ينكرون أن هلاكهم لأجل ظلمهم: {ولقد أهلكنا} أي بما لنا من العظمة {القرون} أي على ما لهم من الشدة والقوة؛ ولما كان المهلكون هلاك العذاب المستأصل بعض من تقدم، أثبت الجار فقال: {من قبلكم لما ظلموا} أي تكامل ظلمهم إهلاكاً عم آخرهم وأولهم كنفس واحدة دفعاً لتوهم أنه سبحانه لا يعم بالهلاك، وقال تعالى عطفاً على {أهلكنا}: {وجآءتهم رسلهم} أي إلى كل أمة رسولها {بالبينات} أي التي بينت بمثلها الرسالة {وما} أي والحال أنهم ما {كانوا} أي بجبلاتهم، وأكد النفي بمن ينكر أن يتأخر إيمانهم عن البيان فقال: {ليؤمنوا} ولو جاءتهم كل آية، تنبيهاً لمن قد يطلب أنه سبحانه يريهم بوادر العذاب أو ما اقترحوه من الآيات ليؤمنوا، فبين سبحانه أن ذلك لا يكون سبباً لإيمان من قضى بكفره، بل يستوي في التكذيب حاله قبل مجيء الآيات وبعدها ليكون سبباً لهلاكه.

فكأنه قيل: هل يختص ذلك بالأمم الماضية؟ فقيل: بل {كذلك} أي مثل ذلك الجزاء العظيم {نجزي القوم} أي الذين لهم قوة على محاولة ما يريدونه {المجرمين} لأن السبب هو العراقة في الإجرام وهو قطع ما ينبغي وصله، فحيث ما وجد جزاؤه؛ والإهلاك: الإيقاع فيما لا يتخلص منه من العذاب؛ والقرن: أهل العصر لمقارنة بعضهم لبعض.

تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :

بين الله تعالى في الآيتين السابقتين شأنه في الناس وشأنهم معه بمقتضى الطبع البشري، وطغيان الشرك والكفر، ليعتبر به مشركو مكة وغيرهم ممن يعقله، إذ هو من العلم الصحيح المستمد من طبع الإنسان وسيرته، وقفى عليه في هاتين الآيتين بمصداقه من سيرة الأمم الماضية وسنته تعالى فيهم.

فقال عاطفا له على ما قبله {ولَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِن قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا} الخطاب لأمة الدعوة المحمدية، وجه أولا –وبالذات- إلى قوم النبي صلى الله عليه وسلم وأهل وطنه مكة، إذ أنزلت السورة فيها، فهو التفات يفيد مزيد التنبيه وتوجيه أذهان المخاطبين لموضوعه، والقرون الأمم -وهو جمع قرن بالفتح -ومعناه القوم المقترنون في زمن واحد، وقد ذكر إهلاك القرون في آيات عديدة من السور المكية، وبدأ هذه بتأكيد القسم المدلول عليه باللام (ولقد)، وصرح بأن سبب هلاكهم وقوع الظلم منهم كما قال في سورة الكهف {وتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِم مَّوْعِداً} [الكهف: 60]، و "لما "ظرف يدل على وقوع فعل لوقوع غيره مما هو سبب له، والمراد بالقرى الأمم والقرون كما تقدم مرارا، وقال في سورة هود {وكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ} [هود: 102] وقد بعث الله الرسل في أهل الحضارة دون الهمج.

وإهلاك الله الأمم بالظلم نوعان:

(أحدهما) هو مقتضى سنته في نظام الاجتماع البشري، وهي أن الظلم سبب لفساد العمران وضعف الأمم، ولاستيلاء القوية منها على الضعيفة استيلاء موقتا- إن كان إفساد الظلم لها عارضا لم يجهز على استعدادها للحياة واستعادتها للاستقلال- كما تقدم في تفسير {فقال لهم الله موتوا ثم أحياهم} [البقرة: 243] من سورة البقرة، أو دائما -إن كانت غير صالحة للحياة حتى تنقرض أو تدغم في الغالبة- كما قال في سورة الأنبياء {وكَمْ قَصَمْنَا مِن قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً وأَنشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْماً آخَرِينَ} [الأنبياء: 11] الآيات، وهذا النوع أثر طبيعي للظلم بحسب سنن الله في البشر، وهو قسمان: ظلم الأفراد لأنفسهم بالفسوق والإسراف في الشهوات المضعفة للأبدان المفسدة للأخلاق، وظلم الحكام الذي يفسد بأس الأمة في جملتها، وهذه السنة دائمة في الأمم، ولها حدود ومواقيت تختلف باختلاف أحوالها وأحوال أعدائها هي آجالها المشار في الآية (49) الآتية وأمثالها.

ثانيهما: عذاب الاستئصال للأقوام التي بعث الله تعالى فيها رسلا لهدايتها بالإيمان والعمل الصالح وأعظم أركانه العدل، فعاندوا الرسل فأنذرهم عاقبة الجحود والعناد بعد مجيء الآيات، وهو ما بينه تعالى بقوله: {وجَاءتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ} الدالة على صدقهم فيما جاءوهم به.

{ومَا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ} أي ما كان شأنهم ولا متقاضى استعدادهم أن يؤمنوا لأنهم مرنوا على الكفر واطمأنوا به، وصارت لذاتهم ومصالحهم القومية من الجاه والرياسة والسياسة مقترنة بأعمالهم الإجرامية من ظلم وفسق وفجور.

{كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ} تذييل لإنذار مشركي مكة؛ لأنهم كانوا مجرمين، وتقديره كالذي مر قبله في المسرفين، وراجع تفسير {وكذلك نجزي المجرمين} [الأعراف: 39]، وتفسير {فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ} [الأعراف: 83] من سورة الأعراف.

في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :

فماذا كانت نهاية الإسراف في القرون الأولى؟

(ولقد أهلكنا القرون من قبلكم لما ظلموا، وجاءتهم رسلهم بالبينات، وما كانوا ليؤمنوا كذلك نجزي القوم المجرمين)..

لقد انتهى بهم الإسراف وتجاوز الحد والظلم -وهو الشرك- إلى الهلاك. وهذه مصارعهم كانوا يرون بقيتها في الجزيرة العربية في مساكن عاد وثمود وقرى قوم لوط..

وتلك القرون. جاءتهم رسلهم بالبينات كما جاءكم رسولكم:

(وما كانوا ليؤمنوا)..

لأنهم لم يسلكوا طريق الإيمان، وسلكوا طريق الطغيان فأبعدوا فيها، فلم يعودوا مهيئين للإيمان. فلقوا جزاء المجرمين..

(كذلك نجزي القوم المجرمين)..