إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم لأبي السعود - أبو السعود  
{وَلَقَدۡ أَهۡلَكۡنَا ٱلۡقُرُونَ مِن قَبۡلِكُمۡ لَمَّا ظَلَمُواْ وَجَآءَتۡهُمۡ رُسُلُهُم بِٱلۡبَيِّنَٰتِ وَمَا كَانُواْ لِيُؤۡمِنُواْۚ كَذَٰلِكَ نَجۡزِي ٱلۡقَوۡمَ ٱلۡمُجۡرِمِينَ} (13)

{ وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا القرون } أي القرونَ الخاليةَ مثلَ قومِ نوحٍ وعادٍ وأضرابِهم و ( من ) في قوله تعالى : { مِن قَبْلِكُمْ } متعلقةٌ بأهلكنا أي أهلكناهم من قبل زمانِكم والخطابُ لأهل مكةَ على طريقة الالتفاتِ للمبالغة في تشديد التهديدِ بعد تأييدِه بالتوكيد القسمي { لَمَّا ظَلَمُواْ } ظرفٌ للإهلاك أي أهلكناهم حين فعلوا الظلمَ بالتكذيب والتمادي في الغي والضلالِ من غير تأخير ، وقوله تعالى : { وَجَاءتْهُمْ رُسُلُهُم } حالٌ من ضمير ظلموا بإضمار قد ، وقوله تعالى : { بالبينات } متعلقٌ بجاءتهم على أن الباءَ للتعدية أو بمحذوف وقع حالاً من رسلهم ، دالةٌ على إفراطهم في الظلم وتناهيهم في المكابرة ، أي ظلموا بالتكذيب وقد جائتهم رسلُهم بالآيات البينةِ الدالةِ على صدقهم أو ملتبسين بها حين لا مجالَ للتكذيب ، وقد جُوِّز أن يكون قولُه تعالى : { وَجَاءتْهُمْ } عطفاً على ظلموا فلا محلَّ له من الإعراب عند سيبويه ، وعند غيره محلُّه الجرُّ لأنه معطوفٌ على ما هو مجرورٌ بإضافة الظرفِ إليه ، وليس الظلمُ منحصراً في التكذيب حتى يُحتاج إلى الاعتذار بأن الترتيبَ للذكرى لا يجب كونُه على وفق الترتيبِ الوقوعيّ كما في قوله تعالى : { وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى العرش وَخَرُّواْ لَهُ } الخ ، بل هو محمولٌ على سائر أنواعِ الظلم والتكذيبُ مستفادٌ من قوله تعالى : { وَمَا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ } على أبلغ وجهٍ وآكده فإن اللامَ لتأكيد النفي أي وما صح وما استقام لهم أن يؤمنوا لفساد استعدادِهم وخذلانِ الله تعالى إياهم لعلمه بأن الألطافَ لا تنجع فيهم ، والجملةُ على الأول عطفٌ على ظلموا لأنه إخبارٌ بإحداث التكذيب ، وهذا بالإصرار عليه ، وعلى الثاني عطفٌ على ما عطف عليه ، وقيل : اعتراضٌ بين الفعلِ وما يجري مَجرى مصدرِه التشبيهيِّ أعني قولَه تعالى : { كذلك } فإن الجزاءَ المشارَ إليه عبارةٌ عن مصدره أي مثلَ ذلك الجزاءِ الفظيعِ أي الإهلاكِ الشديدِ الذي هو الاستئصالُ بالمرة { نَجْزِي القوم المجرمين } أي كلَّ طائفةٍ مجرمة ، وفيه وعيدٌ شديدٌ وتهديدٌ أكيدٌ لأهل مكةَ لاشتراكهم لأولئك المهلَكين في الجرائم والجرائر التي هي تكذيبُ الرسولِ والإصرارُ عليه وتقريرٌ لمضمون ما سبق من قوله تعالى : { وَلَوْ يُعَجّلُ الله لِلنَّاسِ الشر استعجالهم بالخير } [ يونس : 11 ] وقرىء بالياء على الالتفات إلى الغَيبة وقد جُوِّز أن يكون المرادُ بالقوم المجرمين أهلَ مكةَ على طريقة وضع الظاهرِ موضعَ ضميرِ الخطابِ إيذاناً بأنهم أعلامٌ في الإجرام ويأباه كلَّ الإباء .