تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{واتخذ قوم موسى}، بني إسرائيل، {من بعده}، حين انطلقوا إلى الطور، {من حليهم عجلا جسدا}، يعني صورة عجل جسد، يقول: ليس فيه روح، {له خوار}، يعني له صوت البهائم... {ألم يروا}، يعني بني إسرائيل، {أنه لا يكلمهم}، يعني لا يقدر على أن يكلمهم، {ولا يهديهم سبيلا}، يعني طريقا إلى الهدى، يعني العجل، {اتخذوه} العجل إلها، {وكانوا ظالمين}، يعني مشركين.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: واتخذ بنو إسرائيل قوم موسى من بعد ما فارقهم موسى ماضيا إلى ربه لمناجاته ووفاء للوعد الذي كان ربه وعده من حليهم عجلاً، وهو ولد البقرة، فعبدوه. ثم بين تعالى ذكره ما ذلك العجل فقال:"جَسَدا لَهُ خُوَارٌ" والخوار: صوت البقر. يخبر جلّ ذكره عنهم أنهم ضلوا بما لا يضلّ بمثله أهل العقل، وذلك أن الربّ جلّ جلاله الذي له ملك السموات والأرض ومدبّر ذلك، لا يجوز أن يكون جسدا له خوار، لا يكلم أحدا ولا يرشد إلى خير. وقال هؤلاء الذين قصّ الله قصصهم لذلك: هذا إلهنا وإله موسى، فعكفوا عليه يعبدونه جهلاً منهم وذهابا عن الله وضلالاً...
وقوله: "ألَمْ يَرَوْا أنّهُ لا يُكَلّمُهُمْ وَلا يَهْدِيهِمْ سَبِيلاً "يقول: ألم ير الذين عكفوا على العجل الذي اتخذوه من حليهم يعبدونه أن العجل "لا يُكَلّمُهُمْ ولا يَهْدِيهِمْ سَبِيلاً" يقول: ولا يرشدهم إلى طريق، وليس ذلك من صفة ربهم الذي له العبادة حقا، بل صفته أنه يكلم أنبياءه ورسله، ويرشد خلقه إلى سبيل الخير وينهاهم عن سبيل المهالك والردى. يقول الله جلّ ثناؤه: "اتّخَذُوهُ": أي اتخذوا العجل إلها، "وكانُوا" باتخاذهم إياه ربا معبودا "ظالِمِينَ" لأنفسهم، لعبادتهم غير من له العبادة، وإضافتهم الألوهة إلى غير الذي له الألوهة...
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
... اتخذوا العجل إلها عبدوه، يذكر هذا، والله أعلم، لما لم يعرفوا نعم الله، ولم يتفكروا في آياته وحججه، يذكر هذا لنا لننظر في آياته وحججه وللتفكر في نعمه، فتؤدي شكرها، ونتدبر في آياته وحججه لنتّبعها، ولا نضيّعها على ما ضيّع قوم موسى.
وقوله تعالى: {من بعده} أي من بعد مفارقة موسى قومه...
وقوله تعالى: {عجلا جسدا} قال بعضهم: صورته كانت صورة عجل، ولم يكن عجلا في خواره، وقيل: الجسد، هو الذي لا تدبير له ولا تمييز ولا بيان... {ألم يروا أنه لا يكلّمهم ولا يهديهم سبيلا}... يذكر سفههم أنهم عبدوا من لا تدبير له، ولا كلام، ولا سبب يعبّر به، أو دعاء، واختاروا إلهية من وصفه ما ذكر...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
فإن قلت: لم قيل: واتخذ قوم موسى عجلاً، والمتخذ هو السامري؟ قلت: فيه وجهان، أحدهما: أن ينسب الفعل إليهم، لأن رجلاً منهم باشره ووجد فيما بين ظهرانيهم، كما يقال: بنو تميم قالوا كذا وفعلوا كذا، والقائل والفاعل واحد، ولأنهم كانوا مريدين لاتخاذه راضين به، فكأنهم أجمعوا عليه. والثاني: أن يراد واتخذوه إلها وعبدوه... {أَلَمْ يَرَوْاْ} حين اتخذوه إلها أنه لا يقدر على كلام ولا على هداية سبيل، حتى لا يختاروه على من لو كان البحر مداداً لكلماته لنفد البحر قبل أن تنفد كلماته، وهو الذي هدى الخلق إلى سبل الحقّ ومناهجه بما ركز في العقول من الأدلة، وبما أنزل في كتبه. ثم ابتدأ فقال: {اتخذوه} أي أقدموا على ما أقدموا عليه من الأمر المنكر {وَكَانُواْ ظالمين} واضعين كل شيء في غير موضعه، فلم يكن اتخاذ العجل بدعاً منهم، ولا أوّل مناكيرهم.
البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي 745 هـ :
"أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لا يُكَلِّمُهُمْ وَلا يَهْدِيهِمْ سَبِيلا" سلب عنه هذين الوصفين دون باقي أوصاف الإلهية لأن انتفاء التكليم يستلزم انتفاء العلم، وانتفاء الهداية إلى سبيل يستلزم انتفاء القدرة، وانتفاء هذين الوصفين يستلزم انتفاء باقي الأوصاف.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما كان ذلك كله مما يتعجب الموفق من ارتكابه، أعقبه تعالى مبيناً ومصوراً ومحققاً لوقوعه ومقرراً قوله عطفاً على {فأتوا على قوم يعكفون} [الأعراف: 138] مبيناً لإسراعهم في الكفر: {واتخذ} أي بغاية الرغبة {قوم موسى} أي باتخاذ السامري ورضاهم، ولم يعتبروا شيئاً مما أتاهم به من تلك الآيات التي لم ير مثلها {من بعده} أي بعد إبطائه عنهم بالعشرة الأيام التي أتممنا بها الأربعين {من حليهم} أي التي كانت معهم من مالهم ومما استعاروه من القبط {عجلاً} ولما كان العجل اسماً لولد البقر، بين أنه إنما يشبه صورته فقط، فقال مبدلاً منه: {جسداً}. ولما كان الإخبار بأنه جسد مفهماً لأنه خال مما يشبه الناشئ عن الروح، قال {له خوار} أي صوت كصوت البقر، والمعنى أنه لا أضل ولا أعمى من قوم كان معهم حلي أخذوه ممن كانوا يستعبدونهم ويؤذونهم وهم مع ذلك أكفر الكفرة فكان جديراً بالبغض لكونه من آثار الظالمين الأعداء فاعتقدوا أنه بالصوغ صار إلهاً وبالغوا في حبه والعبودية له وهو جسد يرونه ويلمسونه، ونبيهم الذي هداهم الله به واصطفاه لكلامه يسأل رؤية الله فلا يصل إليها. ولما لم يكن في الكلام نص باتخاذه إلهاً، دل على ذلك بالإنكار عليهم في قوله: {ألم يروا} أي الذين اتخذوا إلهاً {أنه لا يكلمهم} أي كما كلم الله موسى عليه السلام {ولا يهديهم سبيلاً} كما هداهم الله تعالى إلى سبيل النجاة، منها سلوكهم في البحر الذي كان سبباً لإهلاك عدوهم كما كان سبباً لنجاتهم... ولما كان هذا أمراً عظيماً جداً مستبعد الوقوع ولا سيما من قوم نبيهم بينهم ولا سيما وقد أراهم من النعم والآيات ما ملأت أنواره الآفاق، كان جديراً بالتأكيد فقال تعالى: {اتخذوه} أي بغاية الجد والنشاط والشهوة {وكانوا} أي جلبة وطبعاً مع ما أثبت لهم من الأنوار {ظالمين} أي حالهم حال من يمشي في الظلام، أو أن المقصود أن الظلم وصف لهم لازم، فلا بدع إذا فعلوا أمثال ذلك...
روح المعاني في تفسير القرآن والسبع المثاني للآلوسي 1270 هـ :
{وَكَانُواْ ظالمين} اعتراض تذييلي أي إن دأبهم قبل ذلك الظلم ووضع الأشياء في غير موضعها فليس ببدع منهم هذا المنكر العظيم، وكرر الفعل ليبني عليه ذلك، وقيل: الجملة في موضع الحال أي اتخذوه في هذه الحالة المستمرة لهم.
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
... قال تعالى في بيان ضلالتهم، وتقريعهم على جهالتهم، {ألم يروا أنّه لا يكلّمهم ولا يهديهم سبيلا} أي ألم يروا أنه فاقد لما يعرف به الإله الحق، وخاصة ما له من حق العبادة على الخلق، بما يكلم به من يختاره منهم لرسالته، ويعلمه ما يجب أن يعرفوه من صفاته وسبيل عبادته، كما يكلم رب العالمين رسوله موسى عليه السلام، ويهديه سبيل الشريعة التي تتزكى بها أنفسهم، وتقوم بها مصالحهم، فعلم بهذا أن من شأن الرب الإله الحق أن يكون متكلما، وأن يكلم عباده ويهديهم سبيل الرشاد باختصاصه من شاء منهم وإعداده لسماع كلامه، وتلقي وحيه وتبليغ أحكامه، وفي سورة طه: {أفلا يرون ألا يرجع إليهم قولا ولا يملك لهم ضرا ولا نفعا} [طه: 89] فالمراد بالقول هداية الوحي، والمعنى أنه ليس له من صفات الرب الإله هداية الإرشاد التي مرجعها صفة الكلام، ولا الضر والنفع اللذين هما متعلق صفتي القدرة والإرادة.
ثم قال تعالى: {اتّخذوه وكانوا ظالمين} أي اتخذوه وهم يرون أنه لا يكلمهم بما فيه صلاحهم، ولا يهديهم لما فيه رشادهم، ولا يملك دفع الضر عنهم، ولا إسداد النفع إليهم، أي أنهم لم يتخذوه عن دليل ولا شبهة دليل، بل عن تقليد لما رأوا عليه المصريين من عبادة العجل "أبيس "من قبل، ولما رأوه من العاكفين على أصنام لهم من بعد، وكانوا ظالمين لأنفسهم بهذا الاتخاذ الجهلي الذي يضرهم ولا ينفعهم بشيء.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
(ألم يروا أنه لا يكلمهم ولا يهديهم سبيلاً؟ اتخذوه وكانوا ظالمين!).. وهل أظلم ممن يعبد خلقاً من صنع أيدي البشر. والله خلقهم وما يصنعون؟! وكان فيهم هارون -عليه السلام- فلم يملك لهم رداً عن هذا الضلال السخيف. وكان فيهم بعض عقلائهم فلم يملكوا زمام الجماهير الضالة المتدافعة على العجل الجسد -وبخاصة أنه من الذهب معبود إسرائيل الأصيل!
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
...وجملة: {ألم يروا أنه لا يكلمهم} مستأنفة استئنافاً ابتدائياً؛ لبيان فساد نظرهم في اعتقادهم، والاستفهام للتقرير وللتعجيب من حالهم...
... وقد سفه رأي الذين اتخذوا العجل إلاهاً، بأنهم يشاهدون أنه لا يكلمهم ولا يهديهم سبيلاً، ووجه الاستدلال بذلك على سفه رأيهم هو أنهم لا شبهة لهم في اتخاذه إلاهاً بأن خصائصه خصائص العجماوات، فجسمه جسم عجل، وهو من نوع ليس أرقى أنواع الموجودات المعروفة، وصوته صوت البقر، وهو صوت لا يفيد سامعه، ولا يبين خطاباً، وليس هو بالذي يهديهم إلى أمر يتبعونه حتى تغني هدايتهم عن كلامه، فهو من الموجودات المنحطة عنهم، وهذا كقول إبراهيم {فاسْألوهم إن كانوا ينطقون} [الأنبياء: 63] فماذا رأوا منه مما يستأهل الإلهية، فضلاً على أن ترتقي بهم إلى الصفات التي يستحقها الإله الحق، والذين عبدوه أشرف منه حالاً وأهدى، وليس المقصود من هذا الاستدلال على الألوهية بالتكليم والهداية، وإلا للزم إثبات الإلهية لحكماء البشر.
وجملة: {اتخذوه} مؤكدة لجملة {واتخذ قوم موسى} فلذلك فصلت، والغرض من التوكيد في مثل هذا المقام هو التكرير لأجل التعجيب، كما يقال: نَعمْ اتخذوه، ولتبنى عليه جملة {وكانوا ظالمين} فيظهرَ أنها متعلقة باتخاذ العجل، وذلك لبعد جملة: {واتخذ قوم موسى} بما وليها من الجملة وهذا كقوله: {وليكتب بينكم كاتب بالعدل} إلى قوله {فليكتب} [البقرة: 282] أعيد فليكتب لتُبنى عليه جملة: {وليُملل الذي عليه الحق} [البقرة: 282]، وهذا التكرير يفيد معَ ذلك التوكيدَ وما يترتب على التوكيد...
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
في هذه الآيات يقصّ القرآن الكريم إحدى الحوادث المؤسفة، وفي نفس الوقت العجيبة التي وقعت في بني إسرائيل بعد ذهاب موسى (عليه السلام) إلى ميقات ربّه، وهي قصّة عبادتهم للعجل التي تمّت على يد شخص يدعى «السامري» مستعيناً بحلي بني إسرائيل وما كان عندهم من آلات الزّينة. إنّ هذه القصّة مهمّة جدّاً بحيث إنّ الله تعالى أشار إليها في أربع سور، في سورة البقرة الآية (51) و (54) و (92) و (93)، وفي سورة النساء الآية (153)، والأعراف الآيات المبحوثة هنا، وفي سورة طه الآية (88) فما بعد. على أنَّ هذه الحادثة مثل بقية الظواهر الاجتماعية لم تكن لتحدث من دون مقدمة وأرضيَّة، فبنو إسرائيل من جهة قضوا سنين مديدة في مصر وشاهدوا كيف يعبد المصريون الأبقار أو العجول. ومن جانب آخر عندما عبروا النيل شاهدوا في الضفة الأُخرى مشهداً من الوثنية، حيث وجدوا قوماً يعبدون البقر، وكما مرّ عليك في الآيات السابقة طلبوا من موسى (عليه السلام) صنماً كتلك الأصنام، ولكن موسى (عليه السلام) وبّخهم وردّهم، ولامهم بشدّة. وثالث، تمديد مدّة ميقات موسى (عليه السلام) من ثلاثين إلى أربعين، الذي تسبب في أن تشيع في بني إسرائيل شائعة وفاة موسى (عليه السلام) بواسطة بعض المنافقين، كما جاء في بعض التفاسير. والأمر الرابع، جهل كثير من بني إسرائيل بمهارة السامريّ في تنفيذ خِطته المشؤومة، كل هذه الأُمور ساعدت على أن تُقبل أكثرية بني إسرائيل في مدّة قصيرة على الوثنية، ويلتفوا حول العجل الذي أوجده لهم السامريّ للعبادة.
وظاهر هذه الآية وإن كان يفيد في بدء النظر أنّ جميع قوم موسى شاركوا في هذا العمل، إلاّ أنّه بالتوجه إلى الآية (159) من هذه السورة، التي تقول: (ومن قوم موسى أُمّة يهدون بالحقّ وبه يعدلون) يستفاد أنّ المراد من الآية المبحوثة هنا ليس كلّهم، بل أكثرية عظيمة منهم سلكوا هذا السبيل، وذلك بشهادة الآيات القادمة التي تعكس عجز هارون عن مواجهتها وصرفها عن ذلك.